Maarakeh online logo

m66

33

fss   aass
خلال أكثر من نصف قرن ماذا تعلّمت في طبّ السرطان؟ 27 حزيران 2020


د. فيليب سالم

♦️نشر هذا المقال حديثاً مرتين في ASCO Post، الصحيفة الرسمية للجمعية الأميركية للأبحاث السريرية في السرطان.The American Society of Clinical Oncology (ASCO). المرة الأولى كان العدد الذي صدر بتاريخ 25 أيار 2020، بمناسبة انعقاد المؤتمر السنوي للجمعية. في المرة الثانية كان العدد الذي صدر في 3 حزيران 2020 وهو عدد خاص يصدر بعد انتهاء المؤتمر ويركز على بعض قادة الأبحاث السرطانية والباحثين الذين نالوا جوائز مهمة خلال المؤتمر. وزعت هذه الصحيفة على جميع أعضاء الجمعية وهم اكثر من 40.000 عضو من جميع انحاء العالم.
بدأت رحلتي في طبّ السرطان في حزيران 1968 عندما غادرت لبنان الى نيويورك لبدء تخصصي في علم السرطان في مركز Memorial Sloan Kettering Cancer Center. وبعد سنتين تخصصت في السنة الثالثة في مركز MD. Anderson Cancer Center في مدينة هيوستن. ومنذ حزيران 1968 ليومنا هذا، وبشكل يومي كنت أعمل كلياً في معالجة الامراض السرطانية والأبحاث فيها. بعد أن انهيت ثلاث سنوات من التخصص في الولايات المتحدة الأميركية عدت الى لبنان عام 1971 والتحقت بكلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت. وفي كانون الثاني سنة 1987 عدت الى الولايات المتحدة الأميركية والتحقت بمركز MD. Anderson Cancer Center. بعد 4 سنوات في هذا المركز وفي عام 1991، أسَّستُ مركز سالم للسرطان Salem Oncology Center في المدينة نفسها، وما زلتُ رئيساً لهذا المركز حتّى الآن. كما انني امضيت 25 سنة كرئيس لبرنامج الأبحاث السرطانية في مركز بايلور سانت لوكس الطبي.

وفي العودة إلى هذه المسيرة الطويلة التي طبعت حياتي وأغنتها، لا أستطيع إلّا أن أشكر الله كل يوم لأنه أعطاني هذه الفرصة الفريدة. كانت هذه الفرصة بالنسبة لي شرفاً عظيماً. وكم أنا فخور انني امضيت أكثر من نصف قرن أعالج فيه المرضى المصابين بالسرطان كما كنت أيضاً جزءاً من الثورة العلمية التي أدّت إلى التقدّم الكبير في الوقاية والمعالجة لهذا المرض. بالطبع إنّه من الصعب أن أتكلّم في مقالة واحدة عن كلّ الدروس التي تعلّمتها خلال هذه المسيرة؛ ولكن هذا بعض ما تعلمت:



1- المعرفة وحدها لا تكفي

ان المعرفة وحدها لا تكفي للوصول بالمريض الى الشفاء. فالمريض يحتاج إلى معانقته بالحب والحنان. كما إنّه بحاجة أيضاً إلى عناية تتخطّى مجرّد العناية الطبّية التقليدية. فهو يحتاج إلى وقت طويل للتحدث مع طبيبه عن مخاوفه وقلقه. وأهم ما يخاف المرء المصاب بهذا المرض هو ان يخسر كرامته. ويؤسفني ان أقول ان الأطباء اليوم يخصصون أوقاتاً قصيرة جداً للتحدث مع مرضاهم بسبب انغماسهم في الشؤون البيروقراطيّة. تحول الاهتمام والتركيز عند الكثير من الأطباء من العناية بالمريض الى حماية أنفسهم من الدعاوى القانونية التي قد يقيمها المرضى ضدهم. كما أنّ أوقاتهم صارت تُستهلك بمعظمها تلبية لقوانين الحكومة ومتطلبات شركات الـتأمين.



2- الأمل

بدون الأمل، يستحيل على المريض أن يتمكن من المثابرة في العلاج، ومن الصعب عليه ان ينتصر على هذا المرض. يدور جدل في اميركا وفي العالم، بأنّ للمرضى الحقّ كل الحق في معرفة الحقيقة بالنسبة الى مرضهم ولإمكانية الشفاء من هذا المرض. ولكنني أؤمن بأنّ قول الحقيقة هو فنّ راقٍ ومعقدّ في نفس الوقت. على الأطباء ان يتدربوا على هذا الفن. وكذلك أؤمن بأن ما يسمى بالحقيقة يجب ألا يُقال أبداً على حساب الأمل. هناك دائماً أمل. لقد عالجت مرضى كثيرين كان قد قيل لهم في أفضل مراكز علاج الامراض السرطانية في الولايات المتّحدة، أنّ مرضهم متقدم جداً وغير قابل للشفاء وأن ليس هناك اي أمل لهم بالحياة. لقد تحدّى بعض هؤلاء المرضى هذه الاحكام وعاشوا لسنوات طويلة بعدها بصحّة جيّدة.



3- تثقيف المرضى




الثقافة قوّة، وخصوصاً في الامراض السرطانية. إنها القوة التي تساعد على هزيمة المرض. وأنا لا أقول فقط ان المريض يجب ان يعرف الحقيقة بل أقول أكثر من ذلك. على المريض ان يتثقف ثقافة شاملة وان يتعرف معرفة تفصيلية حول مرضه. ان تثقيف المريض عن المرض المصاب به أمر مهم كي يستطيع المريض التغلّب على المرض. لذلك، فأنا أؤمن بأنّ تثقيف المرضى هو قسم أساسي من المعالجة. فمن الصعب ان تعالج مريضاً من دون ان تثقفه عن مرضه.



4- المثابرة

ان المثابرة، بل الإصرار عليها هو المفتاح الأساسي للنجاح في معالجة مرضى السرطان. ان رحلة المريض مع هذا المرض هي طريق طويل وشاق. لذلك فإنّ مثابرة المريض في هذه الرحلة هي أمر مهم جداً. وقد تعلّمت من خبرتي أنّ مثابرة الطبيب لهي أهم من مثابرة المريض. قد يفشل العلاج مرّة، أو مرّتين، أو ثلاث مرّات، لكنّ الطبيب كما المريض يجب أن يثابرا معاً. ان الذين يثابرون هم وحدهم الذين يتمكنون من تحقيق النتائج الجيدة. وأنا أقول دائماً ان الانسان قد لا يعرف مدى قدرته الا إذا ثابر في عمله وأعطى كل ما في وسعه لهذا العمل. كثيرون من المرضى يموتون قبل أوانهم حيث ان هؤلاء المرضى او أطبّاؤهم يفقدون الأمل باكراً.










5- معنى الفشل

لقد تعلّمت أنّ الفشل هو الطريق نفسه الذي يأخذك إلى النجاح. فالإنسان لا يستطيع تحقيق النجاح من دون ان يمر بالفشل. والفشل يجب أن لا يكون سبباً للتراجع أو الانسحاب، بل يجب أن يكون دافعاً للتعلّم، وللتزوّد بالمعرفة والقدرة على التقدم إلى الأمام. من يخاف الفشل لا يستطيع صنع النجاح. ان الفشل هو أفضل معلّم يمكن أن تتعلم على يديه إن كنت جاهزاً للتعلّم منه. كما إن الفشل يعلّمك أهم شيء. يعلمك التواضع، وكذلك يذكّرك بأنّ المعرفة لها حدود.



6- عمل الفريق المتكامل

كلّما اكتسبتُ خبرة في الطب، كلما ازدادت قناعتي بعظمة عمل الفريق المتكامل في معالجة السرطان. اذا اردت ان تعطي مريضك أفضل عناية، فنصيحتي هي أن تتخلّص من كبريائك، من "الأنا"، خاصتك، وتضع هذه الأمور في البيت وراءك قبل المجيء إلى عيادتك. يجب أن تتعلم التواضع من أجل أن تستمع وتنصت جيّداً وتحترم آراء غيرك من الأطبّاء. ان عمل الفريق المتكامل ليس فقط مهمّاً للعناية بالمرضى، بل هو أيضاً مهم للطبيب المعالِج، لأنّه هو أيضاً سيتعلّم كثيراً من هذا الفريق. من النادر جداً أن أحضر نقاشاً لفريق عملٍ طبّي، من دون أن أتعلّم أشياء جديدة. وهنا أود أن أؤكّد وأشدّد بأنّ عمل الفريق المتكامل لا يكون ناجحاً إلّا إذا كان لهذا الفريق قائد. ليس هناك فريق ان لم يكن هناك قائد. فالطبيب المعالج يجب أن يستمع لكلّ المستشارين وأعضاء الفريق، ولكن في نهاية المطاف فهو الذي يجب ان يأخذ القرار النهائي. والقائد هو دائماً الطبيب المعالج. ان اهم ما تعلّمته في نصف القرن الماضي هو عظمة التواضع كما تعلمت ان الغرور يقف دائماً عائقاً كبيراً أمام الطبيب وأمام اي انسان آخر لإحراز التقدّم.



7- الشجاعة

الطبيب قد يفشل مرّات عديدة، لكنّه لا يصبح فاشلاً الا عندما يستسلم للفشل. فمن الضروري أن يركّز الطبيب عينيه على النور في نهاية النفق. ويجب أن يتحلّى بالشجاعة وأن يسير بخطوات ثابتة إلى الأمام باتّجاه النور. يجب على الطبيب أن يركّز دائماً على أفضل علاج للمريض وان يعطيه ما يراه هو أفضل علاج. هناك جدل في أميركا على أهمية العلاج التقليدي المقبول المثبت (standard care). أنا أقول هذه الفلسفة خطرة جداً. على الطبيب ألا يكون مقيّداً بمعايير تقليديّة، وأن يتقيّد فقط بما يراه أفضل علاج لمريضه. الشجاعة بالنسبة إلى الطبيب يجب أن تكون بامتلاك الجرأة للإقدام على ما هو غير تقليدي وغير معروف. هذه الجرأة هي من أهم مكوّنات النجاح.



8- الحصول على العناية الصحيّة هي اهم حق من حقوق الإنسان



ان أكبر عار على دولة، هو أن يكون المواطن فيها غير قادر على تلقّي العناية الصحّيّة، لأنّه لا يستطيع تأمين تكاليف العلاج. لقد وهبنا الله الحياة. والحفاظ على الحياة هو أكثر حقّ مقدّس، ويجب أن يعطى هذا الحق الأولويّة في حقوق الإنسان. أنا لا أعتقد أنّ هناك حقّاً للإنسان يمكن أن يكون أهم من الحقّ في الحياة. ان شرعة حقوق الانسان يجب ان تعدّل بحيث يصبح الحق في الحياة بواسطة الحق في العناية الصحية هو أهم حق من هذه الحقوق. كلّ حقّ آخر يتلاشى بالمقارنة مع هذا الحقّ المقدّس.



9- الإعتداء على الطبّ



انني لا أشك لحظة واحدة ان أعظم إنجاز للحضارة الاميركية هو الطبّ الأميركي. فالمرضى من كلّ أنحاء العالم يأتون إلى الولايات المتّحدة ليتلقّوا أفضل علاج. ولكن يؤسفني ان أقول ان هناك قوى في أميركا من (حكوميّة، شركات تأمين، وقانونيّة) تشكّل اعتداء كبيراً على ماهية الطبّ وعظمته. ان علاقة الطبيب بالمريض مقدسة وان عملية صنع القرار بالنسبة الى العلاج يجب ان تكون منوطة فقط بالأطبّاء. يجب ان لا يكون هناك فريق ثالث بين الطبيب والمريض يشكل عقبة في صنع القرار وفي كيفية معالجة هذا المريض. وانا هنا أود ان ادعو الأطباء في الولايات المتحدة الأميركية وفي كل العالم ان يرتفعوا الى مستوى التحدي وان لا يسمحوا لهذا الاعتداء أن يمرّ. يجب ألا نسمح بتدمير الطب.



10- الطبّ هو قمة النبل



ليس هناك من عمل يستطيع أن يرفعك الى فوق، مثل ان تعطي من نفسك، وتعطي حياة للآخرين. ان إعطاء الحياة هو اعلى مراتب العطاء. وقد تعلّمت أنّ العمل يكون نبيلاً بقدر نبل الشخص الذي يقوم به. على الطبيب ان يرتفع الى مكان بين الأرض والسماء. اذ ان هذه الرسالة قسم منها يمت الى الارض وقسم منها يمت الى السماء.

ان الدروس التي تعلمتها وتحدثت عنها في هذا المقال قد تساعد بعض الأطبّاء، وخصوصاً الجدد منهم الذين بدأوا مسيرتهم المهنيّة والعلمية حديثاً. ومن الطبيعي القول إنّ هذه الدروس ليست هي الدروس الوحيدة التي تعلّمتها. ولمزيد منها أودّ إحالتكم إلى كتابي Defeating Cancer: Knowledge Alone Is Not Enough.

نُشر كتابي هذا عندما أتممت خمسين عاماَ في طبّ السرطان في حزيران 2018. هذا الكتاب رسالة لكلّ الأطبّاء الذين يعالجون مرضى السرطان، كما هو أيضاً رسالة إلى كل مريض بهذا الداء.

وفي الختام، أودّ ان اقول إنّ مسيرتي هذه قد رفعتني الى اعلى، وأعطتني معنىً كبيراً لحياتي. ولو كنت قادراً على العودة بالزمن لحزيران 1968، لما كنت لأغيّر أي شيء. وانا اليوم لا أملك سوى الشكر والامتنان والوفاء لكل الذين علموني وساعدوني ولكل المرضى الذين اعطوني شرف معالجتهم لكي أصبح الشخص الذي أنا هو اليوم. ليس هناك من شخصٍ يصل الى مكان ما وحده.

نداء الوطن


خلال أكثر من نصف قرن ماذا تعلّمت في طبّ السرطان؟ 27 حزيران 2020

خلال أكثر من نصف قرن ماذا تعلّمت في طبّ السرطان؟ 27 حزيران 2020



Maarakeh Online footer logo

© 2018 Maarake Online

Powered by:VAST Logo