جريدة الاخبار
قبل ثلاثة أشهرٍ تقريباً، أقفل المستشفى اللبناني ـ الكندي أبوابه. لم يعد ثمة ما يدعو إلى البقاء، بعدما امتنعت شركات تسليم الأدوية والمعدّات الطبية والمواد المخبرية عن تسليم المستشفى ما يحتاجه، بسبب تراكم الديون. قبل أن يصل إلى تلك النهاية، كان المستشفى يمرّ بمراحل ما قبل «الموت»، فقد بدأ بتخفيض أعداد موظفيه وإقفال بعض الأقسام فيه، قبل أن يسرّح قبل الإقفال بأيام موظفيه من دون تعويضا
كان يمكن لهذا المستشفى أن يستمرّ، ولو بالحدّ الأدنى، لو أن «الدولة تدفع ما في ذمتها»، يقول، نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون. هذه الـ«لو» هي اللازمة التي ترافق المعاناة في القطاع الاستشفائي منذ ما يقرب العامين. مذ صارت «الأزمة مصيرية»، وفقاً له.
من الآتي بعد المستشفى اللبناني ـ الكندي؟ لا يتردّد النقيب بالقول إن «الحبل ع الجرّار»، إن استمرّت الأمور على ما هي عليه. فبالأرقام، للمستشفيات في ذمة الدولة مبالغ تتخطّى عتبة الخطوط الحمراء، وتصل اليوم إلى حدود ألفي مليار ليرة. في ذمة وزارة الصحة وحدها، وهي إحدى الجهات الضامنة للمرضى، تخطت قيمة مستحقات المستشفيات 900 مليار ليرة (وهي قيمة المتأخّرات والمستحقات ما بين عام 2012 والعام الحالي)، «والعدّاد ماشي». هذه القيمة عدا ما للمستشفيات في ذمة «الصناديق» الأخرى، إن كان صندون تعاونية موظفي الدولة أو الضمان الاجتماعي أو «القوات المسلحة» من قوى أمن داخلي وجيش وغيرهم.
الأزمة مفصلية. هذا ما يقوله هارون. وثمة احتمالان هنا لا ثالث لهما: إما أن تدفع الدولة ما في ذمتها، أو أن الانهيار قادم. بمعنى آخر «إذا لم تُرَ جدولة مستحقات المستشفيات، فهذه الأخيرة ذاهبة نحو التوقف القسري واحدة تلو الأخرى»، يحسم هارون. وهو أمر بدأت مؤشراته بالظهور في الفترة الأخيرة، إن كان من خلال توجّه بعض المستشفيات إلى تسريح الموظفين أو إقفال بعض الأقسام لديها أو التوقف عن تقديم بعض العلاجات، منها مثلاً توقف عدد من المستشفيات عن تقديم العلاج الكيميائي لمرضى السرطان.
مشكلة الجهات الضامنة
من هنا، ينطلق هارون للحديث عن الأزمة. ثمة درجات لهذه الأزمة، تبدأ مثلاً بالمشكلة «الأعوص»: مشكلة السقوف المالية التي تفرضها بعض الجهات الضامنة، ومنها وزارة الصحة والمؤسسات العسكرية، وهي «غير كافية إجمالاً»، بحسب هارون. هذه المشكلة تبدأ مع تخطّي المستشفيات ما لها من سقف مالي لدى هذه الجهات الضامنة، ويحال بعدها المبلغ الذي تخطته المستشفيات ليسجّل في خانة «عقود المصالحة».. وقد بدأت هذه «البدعة»، منذ سنواتٍ طويلة. لا يذكر هارون تاريخ البداية، ولكن يمكن تخمين هذا الأمر من خلال توثيق «أول تسوية» في هذا الإطار والتي كانت عن الأعوام 2000 حتى 2011. أما ما بعد تلك الأعوام، فلم يحصل شيء. ويمكن فهم هذا الأمر من منطلق أن تسويات عقود المصالحة تحتاج في صرفها إلى قانون خاص صادر عن المجلس النيابي لتوفير اعتمادات لها في الموازنة. واستناداً إلى ذلك، يمكن فهم مسألة «طول» فترة قبض تلك المتأخرات. فمثلاً، بالنسبة إلى عقود المصالحة التي تجريها وزارة الصحة مع المستشفيات، يمكن الحديث هنا عن سبع سنواتٍ بلا صرف (الأعوام 2012 إلى 2018) وهي التي تبلغ قيمتها اليوم بحدود 600 مليار ليرة، يضاف إليها حوالى 300 مليار ليرة، هي قيمة المتأخرات عن 16 شهراً (منتصف 2018 إلى اليوم) لم تدفع خلاله الوزارة ما يتوجّب عليها أصلاً، خارج إطار المصالحة.
هذه الحسابات ما عدا ما يتوجب من صناديق أخرى، و«أحسن واحد مغطى بس لحدود منتصف 2018». من بعدها، صارت الخسارة تقدّر بـ16 شهراً، وستتبعها أشهر أخرى. هذا نموذج واحد، من دون النماذج الأخرى التي يقتصد هارون في الحديث عنها، وإن كان للمستشفيات في ذمتها مبالغ أكبر.
ثمة احتمالان لا ثالث لهما: إما أن تدفع الدولة ما في ذمتها، أو أن الانهيار قادم
وحده الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي استطاع «تسكين» المشكلة من خلال نظام «السلفة الشهرية»، حيث يعمل على تسديد دفعات شهرية، من دون أن تكون دفعات نهائية، خصوصاً أنها «سلف وليست تسديداً لفواتير مدققة». مع ذلك، «تُسعف»، يقول هارون. على الأقل «تساعد في دفع رواتب الموظفين».
ما يحدث اليوم هو أن المستشفيات تنظّم فواتير شهرية بمصاريفها «على كل الجهات، باستثناء الضمان»، وغالباً ما تبلغ قيمة الفاتورة ما بين «80 إلى 100 مليار ليرة». ما كان يحصل قبل الأزمة الأخيرة أن وتيرة الدفع كانت «تجري كل ثلاثة أشهر وهي تسكّر دفعة فاتورة شهرية واحدة»، ما يعني «كل ثلاثة أشهر، بننكسر شهرين». وهذا ما أدى إلى فقدان التوازن ما بين وتيرة «الفوترة» ووتيرة الدفع. أما اليوم، فقد توقفت حتى هذه الدفعات التي كانت تأتي كل 3 أشهر. وهذا ما نتج عنه أزمة أخرى، تتعلق بعجز الكثير من المستشفيات عن دفع فواتير شركات الأدوية والمستلزمات الطبية والمواد المخبرية. فهذه الشركات «ملزمة بالدفع لها ضمن مهلة 6 أشهر، وإلا تمتنع عن تسليمنا»، يقول هارون. وقد حذرت تلك الشركات والمستوردون مؤخراً من «التوقف عن التسليم للمستشفيات، إذا لم يدفع لها». وكان قد سبق ذلك التحذير مثلاً إجراءات «على الأرض»، لا سيما حادثة «حجز إحدى الشركات على مقبوضات 5 مستشفيات لدى الجهات الضامنة». صحيح أنه في ذلك الحين «اشترينا المشكل»، إلا أن السيف مسلط تواجهه المستشفيات والتي يبلغ عددها 127 مستشفى خاصاً، «وقد يحدث ما حدث في أي وقتٍ كان».
اليوم، تقوم نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة بدورين أساسيين: الإطفائي من جهة والمحاور من جهة أخرى. وفي الدور الأخير، تعمل النقابة على خطين «مع الجهات الضامنة ومع مستوردي الأدوية والمستلزمات الطبية والمواد المخبرية».
المطلوب اليوم من الجهات الضامنة «أن نبدأ بصفحة جديدة». أي، «بنعمل freeze لما لنا في ذمتهم، على أن تتم تسوية الملف بالطريقة المناسبة ولو بالتقسيط على دفعات، ونبدأ من جديد من خلال تأمين سيولة شهرية، على شاكلة ما يحصل مع صندوق الضمان مثلاً»، يقول هارون.
من دون هذا الحل، فالانهيار آتٍ. والخوف اليوم من أن «تمتنع المستشفيات عن استقبال المرضى الذين يعالَجون على حساب الجهات الضامنة». وهذه كارثة لناحيتين: أولهما أن «من يتطببون على حساب الجهات الضامنة هم 85% من المرضى، مقابل 15% على حساب شركات التأمين الخاصة». وثانيهما، وهو أن من سيطالهم المنع هم متوسطو الحال والفقراء. وهذه مسؤولية مزدوجة: الدولة في عدم تسديدها للمستحقات والمستشفيات في اتخاذها خطوة بتلك القساوة. وهذا ما ينتج تالياً مستشفيات بدرجات. وهو ما سنصل إليه بنظام فاشل.
التعويض بالكادر البشري
وضعت الأزمة المالية وأزمة «العلاقات» مع الجهات الضامنة المستشفيات أمام عائق تطوير المعدات والتقنيات الموجودة لديها، والتي هي تشكّل «عامل تفوّق» بالنسبة إلى مستشفيات أخرى في منطقة الشرق الأوسط. ولكن، حتى الآن لا يزال التراجع في إطار التجهيزات «طفيفاً وليس هناك من شيء بنيوي يمكن أن يؤثر على جودة الخدمات»، ولا زلنا «نحافظ على مستوى الجودة بفضل الكادر البشري الموجود لدينا». فهؤلاء «يعوّضون عن النقص». وهذه نقطة قوة في القطاع الاستشفائي، تُضاف إليها نقاط أخرى، منها المستشفيات الجامعية التي لها دور أساسي في التطوير «كونها جزء من إطار متكامل بين الجامعة ـ كلية الطب والمستشفى»، إضافة إلى «قوة القطاع التعليمي سواء أكان الجامعي أو التعليم التقني والمهني». إلى ذلك، تُضاف نقطة القوة التي لها علاقة «بالخبرة الطويلة في القطاع الذي صار له من العمر 150 عاماً». من هنا، يتحدث هارون عن التوجه الجديد المتعلّق بما يجب عمله اليوم، من خلال العمل على مراكز جامعية تخصصية «عم نشجّع تصير المستشفيات تخصصية».
يستقبل لبنان سنوياً ما بين 15 إلى 20 ألف سائح للعلاج، في حين أنه يمكن أن يستوعب ما لا يقل عن 200 ألف مريض سنوياً
لكن، في مقابل تلك «القوة»، ثمة نقاط ضعف. فعدا عن العوائق المادية، هناك ما يتعلّق بالنقص في الكادر البشري، إن كان في الأطباء أو الممرضين. ففي الشق المتعلق بالأطباء، هناك النقص في اختصاصات طب الطوارئ والشيخوخة والعائلة. فمثلاً في طب الطوارئ، تحتاج المستشفيات إلى 750 طبيباً لتغطية كل الأوقات، فيما الموجود فقط 30 طبيباً، وكذلك الحال بالنسبة إلى الآخرين. أما بالنسبة إلى الممرضين، فهناك فقط 7 آلاف ممرض وممرضة، فيما الحاجة إلى 15 ألفاً، وهو ما يؤدي إلى حدوث صعوبات في تطوير بعض الأقسام وتحديداً أقسام العناية الفائقة.
السياحة الاستشفائية: مجرّد صيت
ثمة «كليشه» لم يخرج منها الكثيرون عندما يتحدثون عن لبنان، فيسمونه «سويسرا الشرق». الكليشه نفسه يمكن الحديث عنه في الشق المتعلّق بتعريف لبنان بأنه بلد «السياحة الاستشفائية». فهذه الأخيرة يمكن أن تكون «مجرّد صيت»، على ما يقول هارون. وهذا ما تثبته أرقام القادمين للعلاج في لبنان وجنسياتهم. وبحسب هارون، هناك شقّان من السياحة الاستشفائية: السياحة التجميلية «وهذه عادة ما تكون في العيادات الخاصة، ولا أرقام دقيقة عنها، ويحدث فيها الكثير من المشاكل لأن كثيراً من العيادات غير مراقبة»، وهناك السياحة العلاجية التي تنحصر في المستشفيات، وهي ضئيلة جداً. وبالأرقام، يقول هارون بأن لبنان يستقبل «سنوياً ما بين 15 إلى 20 ألفاً، جلّهم من الجنسية العراقية والبعض من الجنسية السورية»، في حين أنه «يمكن أن يستوعب ما لا يقل عن 200 ألف مريض سنوياً». ولكن، هذا يحدث في حالٍ واحدة: التخطيط والمراقبة وصياغة استراتيجية واضحة، كي لا يحدث ما يحدث اليوم من فوضى في العلاج و«التسعيرة» والتي يذهب ضحيتها القادمون، وخاصة العراقيين. من هنا، يجب أن «يكون العمل من خلال وضع شبكة من المستشفيات التي تستقطب المرضى الخارجيين وإلزامهم بشروط وعقد محدّد، مع وضع لجنة رقابة للبت في الشكاوى الواردة والعمل على متابعتها». من دون ذلك، لا شيء عملياً يمكن أن يحسّن الواقع.
المستشفيات الخاصة بالأرقام
يبلغ عدد المستشفيات الخاصة 127 مستشفى، وهي أعداد المستشفيات ذات الإقامة القصيرة والمتوسطة، وجميعها منتسب إلى نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة. ويبلغ عدد الأسرّة فيها 11 ألفاً و523 سريراً، موزعة على 7 أقضية: بيروت (16 مستشفى و2017 سريراً) ولبنان الشمالي (21 مستشفى و2089 سريراً) والجنوب (19 مستشفى و1813 سريراً) والبقاع (22 مستشفى و1804 أسرّة) وكسروان/جبيل (9 مستشفيات و727 سريراً) والمتن (28 مستشفى و2867 سريراً) والشوف/عاليه (12 مستشفى و506 أسرّة).
أما أعداد المستشفيات ذات الإقامة الطويلة (مستشفى الأمراض العقلية والعصبية والنفسية)، فعشرون هي المنتسبة إلى النقابة، بعدد أسرّة يصل إلى حدود 4 آلاف. وهو «عدد ضئيل موجود في النقابة، في مقابل عدد آخر أكبر»، بحسب هارون. أما السبب، فهو «عدم استيفاء هذه المستشفيات للشروط التي تفرض الانتساب».
من ملف : مستشفيات لبنان إنجازات... وتحدّيات
المستشفيات الخاصة في مهب أزمة مفصليّة أعمال الخميس 14 تشرين الثاني 2019