علي نور | السبت 25/07/2020
التقى صفير أبرز مجموعات الضغط الأميركيّة (المدن)
تدرك المصارف أهميّة تجميع كل أوراق القوّة والضغط في هذه المرحلة، وخصوصاً بعد دخولها مؤخراً في مرحلة المواجهة المباشرة لحماية مصالحها ورساميلها. ولذلك، كثر الحديث مؤخراً في أروقة الإدارة الأميركيّة ومجلسي النواب والشيوخ عن نشاط جمعيّة المصارف اللبنانيّة، الذي تكثّف في واشنطن في الفترة الأخيرة، والساعي إلى التأثير في مراكز القرار في الولايات المتحدة، كون الجمعيّة تدرك نفوذ الولايات المتحدة وتأثيرها الاستثنائي داخل صندوق النقد الدولي، الذي يفاوض الدولة اللبنانيّة على خطّتها للخروج من الانهيار المالي.
المصارف اللبنانيّة بدأت بتوسيع دائرة تأثيرها في العاصمة الأميركيّة منذ حصول الانهيار المالي العام الماضي. فمنذ ذلك الوقت، لجأت المصارف إلى الاستعانة بخدمات مجموعات ضغط متخصصة، لتسويق أولوياتها هناك. وظلّت هذه المجموعات على تواصل مع المصارف اللبنانيّة في بيروت طوال الفترة الماضية. لكنّ الجديد اليوم هو تسارع وتيرة عمل مجموعات الضغط هذه، ودخولها في تفاصيل حسّاسة تتعلّق بطبيعة المعالجات التي سيلجأ إليها لبنان للتعامل مع الانهيار المالي الحاصل. وعملياً، لا يمكن فصل النشاط المكثّف هذا عن المستجدات التي تحصل حاليّاً في بيروت، خصوصاً من جهة دخول الجمعيّة خلال الأسبوعين الماضيين في مسار التفاوض على خطّة الحكومة مع وزارة الماليّة، وإدراك المصارف لأهميّة رأي صندوق النقد في النتائج التي يمكن أن تتمخّض عن هذه المفاوضات.
تسويق أولويات المصارف
آخر تلك النشاطات، كان اجتماع رئيس جمعيّة المصارف سليم صفير مع مجموعة العمل الأميركيّة من أجل لبنان، والتي يُنظر إليها كأحد أبرز مجموعات الضغط الأميركيّة الفاعلة في العاصمة الأميركيّة، والتي تُعنى بشكل أساسي بالملف اللبناني. أما محاضر الاجتماع، فلا تترك مكاناً للشك بأن هدف جمعيّة المصارف من اللقاء لم يكن سوى تسويق حلولها للأزمة الراهنة، ومحاولة إعطاء الزخم للخطة التي اقترحتها من بوابة دعم مجموعات الضغط الأميركيّة.
صفير بدأ حديثه بنغمة انتقاد قرار الدولة القاضي بالتوقّف عن سداد سندات اليوروبوند، محاولاً الربط بين هذا القرار وبين المشاكل التي يواجهها القطاع المالي اليوم. مع العلم أن صفير يتناسى هنا أنّ تعثّر القطاع المصرفي اللبناني بدأ عمليّاً قبل قرار الامتناع عن سداد السندات بأكثر من خمسة أشهر، فيما تعود أزمة السيولة التي يواجهها القطاع المالي بأسره لسنوات مضت. وعلى أي حال، كان من الواضح أن هدف صفير من هذه النقطة لم يكن سوى البناء عليها للحديث عن مسألة توزيع الخسائر، التي ينبغي تحميلها في المرحلة المقبلة لموجودات الدولة المربحة مثل كازينو لبنان وشركة طيران الشرق الأوسط، رافضاً فكرة الهيركات والمس بالودائع.
سائر النقاط التي عرّج عليها صفير لم تخرج أيضاً من إطار النقاط التي تحاول جمعية المصارف عادةً تسويقها: لم يحدث تهريب للودائع بعد تشرين الأوّل الماضي، بل ما جرى لم يكن سوى سداد لبعض الإلتزامات الخارجيّة التي توجّبت على القطاع المصرفي. أما الفوائد الخياليّة في السنوات الماضية، فلم يستفد منها سوى 10 في المئة من أصحاب الودائع. وهي حجّة حاول الرد بها على بعض الذين أشاروا إلى العوائد الكبيرة التي تم تحقيقها من هندسات مصرف لبنان وإجراءاته الإستثنائيّة. مع العلم أن هذا النوع من الردود لا يفسّر الأرباح الخياليّة التي تمكّن القطاع المصرفي من تحقيقها خلال السنوات الماضية نتيجة هذه الهندسات. ولو لم يستفد منها إلا أقليّة من أصحاب الودائع في القطاع.
في كل الحالات، كان من الواضح أنّ صفير حاول التركيز في كلامه على النقاط السجاليّة التي تقلق المصارف اليوم، في سياق مفاوضاتها مع الحكومة، خصوصاً أن موضوع وضع اليد على أصول الدولة المدرّة للأرباح، لمعالجة خسائر القطاع المالي يمثّل اليوم جوهر النقاش الدائر في المفاوضات بين وزارة الماليّة وجمعيّة المصارف. وبالتالي، يمكن القول أن جمعيّة المصارف تحاول - عبر لجوئها إلى الضغط من بوابة اللوبي اللبناني في واشنطن- التأثير على مجريات التفاوض في بيروت حول هذه الملفات.
العين على صندوق النقد
محاولة التأثير على مجريات التفاوض في بيروت، ومن البوابة الأميركيّة، تتصل حكماً بموقف صندوق النقد من خطة الحكومة، ومن تأثيره على مجريات التفاوض نفسه. صندوق النقد يملك موقفاً حازماً: من غير المنطقي تحميل القطاع العام كلفة تعثّر القطاع المصرفي بأسره. وهذا الموقف هو ما ترتكز عليه شركة لازارد عند إصرارها على رفض منطق تحميل خسائر القطاع المالي – بما فيها خسائر مصرف لبنان نفسها- إلى أصول الدولة، من خلال خصخصتها أو بيعها أو تقديمها للدائنين. ولذلك، يبدو أن المصارف تحاول اختصار الطريق، وتجاوز دور الدولة كمفاوض مع صندوق النقد، والرهان على التأثير الأميركي على صندوق النقد، في محاولة لتليين موقف الصندوق، وسحب هذه الذريعة من يد لازارد.
من ناحية أخرى، تشير مصادر متابعة للملف أن المصارف تراهن على سمعتها الحسنة في واشنطن، وهي السمعة التي اكتسبتها تاريخيّاً من امتثال المصارف اللبنانيّة الكبرى السريع والدائم لقوانين مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال الأميركيّة. ولذلك، تدرك المصارف أن الإدارة الأميركيّة ستملك حساسيّة سياسيّة من أي مقاربات يمكن أن تؤدّي لاحقاً إلى فقدان أصحاب المصارف الحاليين لسيطرتهم على مصارفهم، وخصوصاً في حالة تحميل الرساميل المصرفيّة قدراً كبيراً من خسائر الإنهيار الحاصل اليوم.
بإختصار، ستعني هذه السيناريوهات حصول تغيير في هوية الأطراف المسيطرة على القطاع المصرفي، وبشكل سريع. وهو يثير قلق واشنطن من جهة امتثال القطاع لقوانينها ولوائح عقوباتها. لكل هذه الأسباب، تعتقد المصارف أنّه بإمكانها الرهان على موقف أميركي مؤيّد لطروحاتها. ومن هذه الزاوية بالتحديد. وهو ما يمكن أن يؤثّر على موقف صندوق النقد لاحقاً.
لعبة شطرنج مصرفيّة
تلعب المصارف لعبتها بذكاء وببرودة أعصاب، كلاعب شطرنج يدرك أن الوصول إلى هدفه يتطلّب نفساً طويلاً وهدوءاً في التعامل مع كل عائق على حدة. في المجلس النيابي اللبناني، ثمّة لوبي مصرفي عابر للأحزاب والطوائف تكفّل بإسقاط خطة الحكومة السابقة، ودفع الحكومة للعودة إلى جمعيّة المصارف نفسها، للتفاوض معها حول طريقة توزيع الخسائر. وفي الحكومة، بات الاتجاه يميل نحو الانسحاب من ملف إعادة هيكلة القطاع المصرفي، فيما اندفع مصرف لبنان لمعالجة المسألة بنفسه من خلال لجنة ستملك المصارف نفسها حصة الأسد فيها. آخر العقبات كان صندوق النقد والشروط التي يضعها في مفاوضاته مع الوفد اللبناني. ويبدو أن المصارف تحاول اليوم أن تجد طريقها نحو معالجة هذه العقبة الأخيرة.
مع بداية الانهيار، كان المشهد مختلفاً، لكنّ تطورات الأشهر الماضية كانت كفيلة بوضع المصارف في موقع مُبادر، وأكثر قوّة. أما ما ينبغي ترقّبه خلال الأسابيع المقبلة، فهو المقاربات الجديدة التي ستتبناها الحكومة بعد مفاوضاتها مع المصارف، ومدى تقبّل صندوق النقد للطروحات الجديدة. فحتى لو نجحت المصارف في استدعاء دعم أميركي معيّن في هذا الملف، ثمّة معادلات حسابيّة ومسلّمات لدى الصندوق سيصعب تجاوزها.
المصارف اللبنانية تستقوي بلوبيات واشنطن.. ضد خطة الحكومة