رأي محمد عبد الله فضل الله الجمعة 12 حزيران 2020
✍ليس من حلّ وسط في المجتمعات الشرقية، فإمّا انقلاب دموي على الحكّام من قبل الدائرة الضيقة، أو من قبل الجمهور، وإمّا إفراط بحق الناس إلى درجة إعدامهم كل سبل العيش الكريم، فلا منطقة وسط يلتقي فيها الراعي والرعية ويتبادلان حقيقة الأدوار من أجل كتابة تاريخ نظيف خال من التعقيدات وحفلات النفاق والتزوير.
لم يكد يمر على الإنسان، منذ زمن الخليقة، لحظات تخلٍّ كافية أثّرت جدياً في مسار حماية نفسه من المنزلقات التي قوّضت مسيرتها، وغيّبت حضورها المتعدّد الجوانب، وحصرتها في لعبة ردود الفعل والانطوائية والاغتراب عن فعلها الثقافي والحضاري المطلوب. ما هو مغيَّب عن واقعنا، أو تمّ تجاهله عن قصد أو غير قصد، هو بناء عناصر القوة اللازمة كمدخلية ضرورية للتغيير والإصلاح من أجل ضمان الاستمرارية في أي مجتمع كان، وبوجه خاص المعنون بالعنوان الديني الذي لا بدّ أن يتّصف بهذه القوة على الصعد كافة، كي يتمكّن من التمييز بين الزيف والباطل وبين الحقيقة والجهالات. ولن يتحقّق كلّ ذلك من دون زيادة منسوب الوعي الذي هو مركز القوة والديناميكية في كلّ شيء.
يقول تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ*} الأنفال: 60.
من هنا لطالما سمعنا ونسمع، بالحق ووجوب احترامه، وكأن الحقوق ملهاة نتلهّى بها على الألسنة، فيما الواقع يناقضها تماماً، لا بل تُستباح هذه يومياً بأبشع الصور والأشكال، فنشهد على زمن الانهيار والاتباع للآخرين في الأمن والاقتصاد والمعرفة. ما يُحكى عن مدّ جسور التواصل بين مختلف الفئات والمناطق وتعزيز روح المواطنة السليمة والعيش الكريم والمشترك، ونبذ كل إثارات التعصّب المناطقي والمذهبي، لم تثبت فعاليته لأنه لم يدفع المتفوّهين بها، ومن هم في مواقع صنع القرار، إلى تغيير ذهنيّتهم وروحيّتهم، بل يمارسون عكس ذلك عند أبسط تفصيل وموقف يتعلق بمكاسبهم وحساباتهم الضيّقة، التي تُرضي حسّهم الطائفي والمذهبي، فلن نستطيع النهوض بأمُتنا والشعور بها، ما لم نصل إلى الشعور بحسّنا الوطني والإنساني، إلى الآفاق الواسعة التي نحلّق بها فوق كلّ الحسابات الضيّقة، على الرغم من أنّ دولة الإنسان والمواطنة لم يسمحوا بتعزيزها، إذ ألقوا المواطن في نار همومه اليومية التي تستحوذ على عقله وفكره ومشاعره.
إن اليوم اختبار لكل الشعارات والعناوين من أي جهة كانت، فإذا سقطنا في الامتحان الاجتماعي التضامني، وفي امتحان تصفية النيّات وتعديل القوى النفسانية لصالح تكريس المصداقية والإخلاص للحق ومحاربة الفساد بجدية ووفق خطوات واضحة وحاسمة، فنحن نؤكّد تخلّينا عن المسؤولية وحفظ الأمانة، وتالياً نفتقد صدقيتنا. فالمقاومة الاجتماعية والإنسانية أشدّ حاجة وأقوى دافعاً من أي مقاومة، ذلك أنك لن تكون مجاهداً ومقاوماً، وأهلك وأبناؤك معدمون وحقوقهم مسلوبة وكراماتهم مُداسة.
يقول النبي الأكرم محمد «ص»: «كاد الفقر أن يكون كفراً...»، ويقول علي عليه السلام: «الفقر الموت الأكبر»، فإذا كنّا ممّن لا يواجه ما استطاع الفقر والحرمان، فنحن بقول الرسول كفّار ولسنا مسلمين، وإذا كنّا لا نحارب الفقر في بيئاتنا ونجتثه ما قدرنا، عبر مواجهة الفساد والمفسدين ووضع برامج واضحة وفعالة، فإنّنا نسلب العافية والحياة من روح مجتمعنا، ثم نطلب منه أن يصفّق ويصرخ لهذا وذاك، وندفعه إلى التسكّع على باب هذا المسؤول وذاك. ما زلنا نبحث عن حسٍّ آدمي عرف نفسه فعرف ربه، وانطلق لحماية نعمة الحياة، وخدمة الناس ورعايتهم. فالمأساة في العناد والتكبّر والتقوقع المناطقي والمذهبي والتغاضي عن الأخطاء والتعامي عن التسلّح بالقوة، في مواجهة أعداء الداخل والخارج، إذ لا يكفي رفع عناوين وشعارات برّاقة تدلّ على زمن الانتصارات، ما لم تواكب ذلك قوة من نوع آخر، قوة ثقافية اجتماعية تعوّد الناشئة وتربّي الأجيال على حبّ التفكير الحر والاستقلالية التي تخلق جيلاً مبدعاً لا يحمل إرث الهمج الرعاع.
المأساة في العناد والتكبّر والتقوقع المناطقي والمذهبي والتغاضي عن الأخطاء والتعامي عن التسلّح بالقوة
كل هذا يحتّم بناء الوعي اللازم لمواجهة أباطيل السياسة وأسيادها وأضاليل السطحيين من أدعياء المعرفة، خدمة للحق والنهوض بالأمّة كذاتٍ جماعية مُسلمة بقدرة الله اللامحدودة، ولن يتيسّر ذلك إلا إذا اعتمدنا طريقة تفكير حرة ومستقلّة، فلا يُعقل أن نؤمن بالله المطلق واللامحدود، وفي ممارساتنا وسلوكياتنا ومشاعرنا نعيش الانحطاط والتقوقع والتحجّر والمحدودية في التعقّل، واستجداء الغيب واجترار الخطابات المعلّبة والجاهزة، فكلّ ذلك ضعفٌ لأمّة تراجعت عن إيمانها قبل إنسانيّتها وأخلاقيّاتها.
هناك جهات وأحزاب، وحتى عائلات إقطاعية وبرجوازية من مسيحية وإسلامية، لا تزال ملتفّة ومتمسّكة بما تعده حكراً لها، ذلك أنه بناءً على اعتبارها، ينبغي أن تبقى القوة في يدها وتحت سلطتها. لذا تسعى إلى إمساك الأمة كذاتٍ وأفرادٍ بخطابها التعبوي والمذهبي والجهوي المنغلق، خوفاً من تفكير الأمّة الحر والمستقل الذي يبني وعياً جمعياً يتناغم مع اللامحدود والمُطلق، ويدفع عنه نفحات الشيطان، والتهديد اللحظوي لأصحاب العقول المتحجّرة والمتخلّفة والعقد المرضية فكرياً وسياسياً، عبر نشر الأفكار المزيّفة والأباطيل التي تخدّر العقول والمشاعر وتتحكّم في الانفعالات وتحدّد المواقف والتوجّهات.
يُحكى عن ديوجين، أحد فلاسفة اليونان القدامى، أنّه كان يجول في شوارع أثينا في وضح النهار حاملاً مصباحاً، فيسأله الناس: «عمَّ تبحث يا ديوجين؟»، فيجيب: «إنّي أبحث عن إنسان». نسأل بعض المتعنونين بالعناوين الإسلامية والدينية: هل بتنا اليوم أكثر تطبيقاً ودفاعاً عن مقولة نيتشه بأنّ ديننا مجموعة طقوس وممارسات؟ وهل أضحينا اليوم أكثر مادية من فكر ماركس، وأكثر تنفيذاً لروح مقولته من أنّ الأقوياء هم من اخترعوا الأديان لسلب وعي الضعفاء؟ لماذا نلعن ماركس ونهاجمه، ونحن بأساليب بعضنا وخطاباتهم البالية والرجعية، نسلب وعي الضعفاء ونُلقي بدينٍ جديد لا دخل لله به، ونمارس التعمية على مآسيهم ونبرّر واقعهم السيّئ عبر القول بالقدر الإلهي، وأنّ عليهم أن يحلموا بالجنان الموعودة في الآخرة فقط، ولا دخل لهم في الدنيا؟
إنّ بعضنا المتديّن شكلاً، أشد مادية من ماركس، فهو كفردٍ حرٌّ وله نظرته، أمَّا من يدّعي التسليم لله أو المسيحية، ويمارس النفاق والاستغلال، فهذا إفكٌ عظيم بكل الموازين. الله يريد عبادة واعية، وديناً يكون فيه المؤمن قوياً يحرّك وعيَه في كلّ شيء، ويمارس دوره بحرية واستقلالية، وصولاً إلى الترفّع عن كلّ المحدوديات والانطلاق في الآفاق الرحبة للكون كله. إنّ الحياة ملك الله تعالى وحده، ولم يعطِ السلطة لأحد من عباده مهما علا شأنه للتصرّف فيها والتحكّم في وجودها، بل احتاطت الشريعة في أمور النفوس والأموال والأعراض، وجعلت حفظ النفوس مقدّماً على أيّ أمر آخر، ومن مقاصد الدين ولزوميات العقل، وحفظ الوعي الجمعي وبناء التاريخ الجمعي بجدارة من مصاديق حفظ النفوس. فإذا كان مَن يتعدّى على الفرد والجماعة بنشر الأفكار المريضة والمتخلّفة، وإذا كان من يجعل من الجيل جيلاً ناعقاً بما لا يفهم ويعي، ومن أماتته عصبيّته الحزبية والمذهبية والجهوية والعائلية، فإنّه مفسدٌ ومجرم وأول مستكبر ومستعمر، قبل غيره من المستكبرين والمستعمرين .
في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} النساء: 29. الله تعالى في هذه الآية، ينهانا عن إهلاك أنفسنا وفعل ما يسبّب الموت لها، وليس موت الجسد هنا فحسب، بل أيضاً موت الدور وغياب المسؤولية والتزام الأمانة، على صعيد تجميع عناصر القوة والإعداد لمواجهة التحدّيات داخلياً وخارجياً. الذي يحيي الناس، ويؤمِّن لهم حياة كريمة حرّة، ويحترم مشاعرهم وأفكارهم وتوجهاتهم، هو من يقوم بالعمل المسؤول والجاد والمخلص، في سبيل نمائهم وتقدّمهم عبر عمارة المدارس والجامعات المجانية، وتأمين لقمة العيش والدواء والمشافي الكافية. فليست عبادتنا متّسمة بالأنانية، من خلال كفاية العبادة لله طقساً وممارسةً فارغة، ومجرّد عادات بالية لم تعد مفيدة، بل العبادة سلوك عملي ينعكس مساهمات مادية وفكرية، في خدمة النفس الواحدة التي أرادها تعالى أن تتوحّد إنسانياً وإيمانياً، وعلى صعيد التفكير بالأهداف المشتركة التي تحفظ كرامة الإنسان وحياته كنوع.
أن نعطي الحياة اليوم، ليس صعباً، ولكن الأصعب غياب الوعي والجدية والتحلّي بروح المسؤولية والإخلاص في الأعمال، في سبيل حماية الحياة التي هي نعمة موهوبة دخلنا بها الزمن، لنكتب تاريخاً فاعلاً وحيوياً لا تاريخاً محمّلاً بالآثام والخطايا عنوانه العدوان على النفس. يقول وليم شكسبير: «أعظم النعم في الحياة راحة البال، إن شعرت بها فأنت تملك كل شيء». وهذا يعني أننا عملياً لا نملك شيئاً، اليوم، لا راحة بال اقتصادية ولا اجتماعية ولا معرفية، ولا حتى صحية، وأصبحنا رعاة أهوائنا ومن المصفقين في مسرحية صاخبة، أبطالها فاسدون وناهبون للفكر والمال العام وللطمأنينة وراحة البال، وباتت الأمة مفردة غائمة لا وجود لها في حياتنا، لا بل أضحت مفردة ثقيلة نتهرَّب ممّا تفرضه علينا من مسؤوليات.
لن ندخل في نقاش عقيم حول تخريج بعض المراكز الدينية للجهلة والغوغائيين والمتعصّبين، حتى باتت أجيالنا تتلقّى فيروسات فكرية وروحية متشيطنة ترفع اسم الشيطان، وليس الله، فالمساجد منابر للوعي وحفظ الروح من التلوّث العقيدي والسياسي والتعصّب المذهبي والمناطقي. وهي منابر تبني وعي الإنسان وعقله، وهي منابر تمتلك خبرات وذات برامج حياتية على مستوى بناء الأمة، وهي منابر لا مقياس عندها سوى الحق، فعن أي منابر صرنا نتحدث، اليوم، للأسف، على طول العالم الإسلامي وعرضه؟!
إنّ هذه المراكز التي يُعبد الله فيها، ويُرفع فيها اسمه، فإنّ الله تعالى يدعونا إلى حفظ أنفسنا، وأن نعبده بشكل آخر، وأن نرفع اسمه ونذكره جيداً بحفظ إنسانه وحياته، فإننا تالياً نمارس عبادة من نوع آخر، عبادة القوة التي تمنحنا الطمأنينة وراحة البال في الانفتاح على الآخر، وقبوله ومد جسور التواصل معه، ونبذ التعصّب والجهل اللذَيْن يفرزا جهلة بكل منطق نرى أفعالهم ونسمع بكلماتهم الجوفاء على مواقع التواصل، اليوم، والتي تنضح بسخافات وعصبيات لا حدّ لها.
إنّ ممارسة المسؤولية تكون في خلق جيل غير تبعي، لا يعبد الزعيم والحزب والمذهب، ويقدِّس الطائفة وتبقى مخيّلته عند حدود طائفيته وضمن حدود حزبه وشعاراته وجدران مسجده وكنيسته، كمتاريس خاصّة تزيد من أنانيته وانغلاقه عن متطلّبات تحديات الحياة والوجود.
إن محمداً، كما المسيح، عليهما السلام، ساحا في الأرض وكان التراب فراشهما والسماء لحافهما، وكانا يبلِّغان الدعوة إلى الله في الأزقة والأسواق والبراري والصحاري، بكل بساطة وعفوية وطهارة، معلنين أنه إلى أيّ حدّ يستطيع فيه الإنسان أن يصل في عمله الخالص لله وخدمة عياله، فليكن، وليفعل بعيداً عن حبس نفسه في نقطة أو تقييد حركته في بناء أو أسلوب. الترهب الإيجابي والتسليم لله، هما فعل جواب طاعة واعية لله في أي شكل وحركة أوفت بالغرض على مساحة المعمورة، ولكل الأعراق والأجناس، بلا حدود وحواجز وقيود.
قال أبو العلاء المعري: «وما حَبَس النّفس المسيحُ ترهُّباً ولكن مشى في الأرض مشية سائح». حبسُ نفوسنا في سجون قلق المعرفة ومغالبة الفكر، بغية المشي الجدي في إعادة بناء قوة الأمة، من أبرز مصاديق العبادة وطاعة الله والدخول في زمنه السرمدي، ومن أهم مستلزمات المواجهة مع الاستكبار، الذي يعمل ليل نهار حتى نبقى مستلبين في إرادتنا وتفكيرنا ومتغرّبين عن وعي أصالتنا كي يسهل عليه ابتلاعنا بلا فرق بين هذه الجهة أو الطائفة أو تلك.
إنّ أرقى درجات الإحساس بالمسؤولية، هي في زرع بذور التوعية وإعداد القوة الحقيقية التي تعيد إلى الأمة فعلها الحر والمستقل والمريد، الذي يفجِّر إمكاناتها إلى اللامحدود عبر خطاب الوحدة والجمع. أما موقف اللامبالاة اليوم، والتفرّج والسلبية، لجهة عدم الاهتمام بالقضايا الطارئة والملحّة على الطريقة الشعبية التي تقول «حيِّد عن ظهري بسيطة»، فهي تمثّل غاية الأنانية المفرطة التي يمقتها الله تعالى، لأنَّ الدين بلغته الحية يحمّلنا جميعاً سوء ما نصل إليه من أوضاع متردية، على مستوى الفرد والأمة. يقول تعالى: {وقفوهم إنهم مسؤولون} الصافات: 24، ويقول النبي: «كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته». فرحمة أيها الحكّام، لم يعد من محكومين لتحكموهم، بل مجرّد بطون غرثى وجياع، فعلى الأقل أبقوا في رعيّتكم بعضاً من روح. فهل بقي من راعٍ يفكِّر في الرعية؟ أو بقي من رعية لها أذنٌ واعية؟
*أكاديمي وحوزوي
الاخبار
لم يبقَ من راعٍ ولا من رعية