مدارات
ستضطر شركات تصنيع السيارات الألمانية لفتح مصانعها واستئناف عمليات البيع قريباً وإلا قد تشهد انهياراً واسع النطاق. سيكون هذا الوضع كارثياً على الاقتصاد الألماني.
منذ فترة قصيرة، كان إلمار ديجينهارت (61 عاماً) يمضي أياماً عدة في الأسبوع وهو يسافر حول العالم لمقابلة العملاء والموظفين. لكن منذ ظهور أزمة كورونا في منتصف شهر آذار الماضي، بدأ يدير شركة Continental، التي تُعتبر من أكبر موردي السيارات حول العالم، انطلاقاً من مكتبه في غرفة المعيشة داخل منزله بالقرب من "دارمشتات"، ألمانيا.
يتعامل مدير الشركة التنفيذي مع ما وصفه بـ"أكبر أزمة في آخر 50 سنة" من منزله. أكثر من 40% من 249 مصنعاً تابعاً لشركة Continental أغلق أبوابه موقتاً، وأكثر من نصف الموظفين فيها (يصل مجموعهم إلى 60 ألف شخص) أُحيلوا إلى برنامج إجازة العمل الذي طرحته الحكومة الألمانية باسم "كورزاربيت" (أو العمل لفترة قصيرة). كذلك، توقفت خطوط التجميع في كامل قطاع السيارات الذي يُعتبر ضامن فرص العمل ومحرك الازدهار في الاقتصاد الألماني. يحذر ديجينهارت من استحالة أن يستمر هذا الجمود لوقتٍ أطول، فيقول: "إذا لم يستأنف قطاع السيارات عمله بعد فترة قصيرة من عيد الفصح، سيصبح عدد كبير من موردي السيارات الأصغر حجماً مهدداً بالإفلاس. وفي أسوأ الأحوال، ستتضرر شبكة الإنتاج الدولي بدرجة عميقة ودائمة، وسيترافق هذا الوضع حتماً مع عواقب وخيمة على الاقتصاد".
يواجه قطاع صناعة السيارات تحديداً محنة غير مسبوقة تاريخياً، ويخشى ديجينهارت أن تستمر المشكلة التي يواجهها هو وزملاؤه "طوال سنة على الأقل أو أكثر". ولم يتّضح بالكامل بعد متى سيبدأ العملاء المنشغلون راهناً بتخزين المعكرونة وورق الحمّام بشراء السيارات مجدداً.
صحيح أن الإقفال التام حصل بين ليلة وضحاها، لكنّ استئناف التصنيع سيتطلب أسابيع أو حتى أشهراً عدة. يجب أن تندمج سلاسل الإمدادات الدولية ويُعاد فتح الحدود كي لا تَعْلَق الشاحنات التي تحمل عناصر التصنيع في زحمة سير خانقة. لكن تبقى هذه الخطوات مستحيلة من دون دعم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
يتوقع ديجينهارت منذ الآن حصول تصدعات خطيرة في النظام القائم. في الظروف العادية، تراقب شركة Continental بين 30 و50 مورداً عن كثب لأنهم معرّضون لمواجهة مشاكل في الدفع. لكن تضاعف ذلك العدد في الأسابيع الأخيرة. يضيف المدير التنفيذي: "أتوقع أن يتابع هذا العدد ارتفاعه. ما زلنا في بداية الأزمة، وقد يكون الربع الثاني والثالث من السنة أكثر صعوبة بكثير". يتّكل عدد كبير من الموردين حتى الآن على العمل الذي قاموا به في بداية السنة. لكن مع نهاية نيسان أو في وقتٍ لاحق من أيار، يحذر ديجينهارت من انتهاء تدفق تلك الأموال النقدية.
منذ أسبوعين، نظّم رؤساء شركات Volkswagen و BMWو Daimler مؤتمراً عبر الهاتف مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. فعبّروا جميعاً عن رغبتهم في توسيع الخطط الرامية إلى تأمين هذا القطاع، وتمنّوا أن تصبح ألمانيا نموذجاً يُحتذى به للتعافي الاقتصادي في أوروبا. خلال ذلك المؤتمر، رفضت المستشارة الألمانية تحديد تاريخ واضح لتخفيف تدابير الإقفال التام واعتبرت أن الوقت لا يزال مبكراً على تلك المرحلة.
لكن يحتاج الموردون تحديداً إلى معرفة توقيت استئناف الإنتاج برأي ديجينهارت. حتى الآن، تريد شركات السيارات أيضاً أن تعيد هيكلة عمليات التصنيع بطريقة جذرية. في الأسبوع الماضي، اتخذ مجلس الإدارة في شركة Volkswagen مثلاً قراره بشأن خطة مؤلفة من مئة نقطة لمحاربة الوباء، وهي تؤثر بشدة على طريقة عمل حوالى 630 ألف موظف فيها حول العالم.
في المرحلة الأولى من تلك الخطة، يقول أندرياس توستمان، عضو في مجلس إدارة Volkswagen والمسؤول عن قسم التصنيع، إن المجموعة ستُركّز على اتخاذ "أقصى تدابير الحماية الصحية".
لم يتّضح بعد توقيت استئناف التصنيع ولا ظروفه. كانت شركة Volkswagen تأمل في بدء عمليات إنتاج محدودة في الأسبوع الماضي، لكن بقيت خططها مجرّد أمنيات. يوم الثلثاء من هذا الأسبوع، سمحت الشركة لأول 1700 عامل فيها ببدء إنتاج عناصر فردية في عدد صغير من المصانع كي تضمن استئناف الإنتاج في الصين لأنها المنطقة الوحيدة في العالم حيث تنشط خطوط التجميع التابعة للشركة راهناً. لكن لتكثيف الإنتاج في أوروبا، تتكل Volkswagen على مئات الموردين في إيطاليا، إذ تشتري منهم الشركة عناصر مهمة مثل الصمامات ومضخات الحقن. لن يتمكن معظم قطاع السيارات في أوروبا، بما في ذلك شركات التصنيع وموردو القطع، من استئناف الإنتاج الضخم إلا إذا عمدت بلدان مثل إيطاليا وإسبانيا وسلوفاكيا وبولندا إلى تخفيف تدابيرها المشددة في الحياة العامة. لكن لا شيء يشير في الوقت الراهن إلى اقتراب تلك المرحلة.
أوضحت الحكومة الإيطالية أمام ممثلي هذا القطاع أن المصانع لن تتمكن على الأرجح من فتح أبوابها في أنحاء البلد قبل 27 نيسان. ويزداد الوضع صعوبة لأن كل بلد من الاتحاد الأوروبي يتخذ قراراته بحسب خططه الخاصة للتعامل مع الأزمة. لذا تطالب شركات السيارات الألمانية بزيادة التنسيق على مستوى الاتحاد الأوروبي. تقول هيلدغارد مولر، رئيسة الرابطة الألمانية لصناعة السيارات: "لن يستفيد أحد حين يتخذ كل بلد مساره الخاص". يفضّل هربرت ديس، المدير التنفيذي في Volkswagen، مناقشة موضوع التنقل الإلكتروني، وهو يدعو صراحةً إلى "توسيع التضامن الأوروبي" في الفترة الأخيرة. كما أنه يدافع عن التدبير الذي لا يُعجِب أجزاءً كبيرة من الحكومة الألمانية حتى الآن، أي سندات اليورو التي سُمّيت حديثاً "سندات الكورونا". يظن ديس أن الاقتراض الجماعي خيار ممكن لمساعدة الأنظمة الاقتصادية في بلدان مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا على النهوض والتعافي.
يؤيد إلمار ديجينهارت بدوره هذا التوجه، فيسأل: "إذا لم ننجح في دعم بعضنا البعض بطريقة منصفة، ما النفع من أوروبا إذاً"؟
لا تخلو تلك الآراء طبعاً من المصالح الشخصية. لا تشمل إيطاليا وإسبانيا شركات مهمة في سلسلة الإمدادات فحسب، بل تشكّلان أيضاً أسواق بيع بارزة. حين يبدأ التصنيع من جديد في أنحاء أوروبا، سيحتاج العملاء في الأجزاء الجنوبية من القارة إلى إيجاد أموال في جيوبهم قبل أن يفكروا بشراء السيارات مجدداً.
تبرز أيضاً مصالح جيوستراتيجية في هذا المجال. يريد الرؤساء التنفيذيون في الشركات الأوروبية تقوية السوق الأوروبي لمنافسة الولايات المتحدة والصين باعتبارهما قوتَين اقتصاديتَين ضخمتَين. يوضح ديجينهارت: "سيكون الوضع كارثياً إذا خسرنا، نحن الأوروبيون، قدرتنا التنافسية في قطاع التنقل الذي يحمل مستقبلاً واعداً بسبب هذه الأزمة".
إنه تحليل صائب بما أن الصين، منشأ فيروس كورونا، بدأت تخرج على ما يبدو من الأزمة بوتيرة أسرع من بقية دول العالم. استأنفت معظم مصانع السيارات في الصين عمليات التصنيع وفتحت معارض السيارات أبوابها مجدداً. ووفق معطيات شركة Volkswagen، عــــادت مبيعات الشركة التي تراجعت بنسبة فائقة إلى نصف مستوياتها المسجّلة هناك قبل الأزمة.
لكن حتى هذا المستوى من استئناف النشاط الاقتصادي لا يزال بعيد المنال في ألمانيا. تحتاج Volkswagen وشركات أخرى إلى القطع بشكلٍ عاجل، وإلا لن يكفيها مخزونها الاحتياطي لأكثر من أسبوع في أفضل الأحوال. أما الموردون، فلن يتمكنوا من استئناف الإنتاج إلا عندما يتلقون أوامر مُلزِمة من شركات السيارات، وهو أمر مستحيل في الوقت الراهن. اليوم، لا تعرف الشركات أصلاً حجم الطلب المرتقب لأن جميع وكلاء السيارات في ألمانيا أغلقوا أبوابهم منذ منتصف آذار الماضي.
حـــاجـــة إلـــى زيـــادة الـــطـــلـــب
ماذا سيحصل إذا لم يبدأ العملاء بشراء السيارات مجدداً؟
لزيادة الطلب على السيارات، يأمل هذا القطاع في تلقي حزمة واسعة من الحوافز الحكومية، فضلاً عن إعفاءات ضريبية وإعانات إضافية. استفاد رؤساء شركات السيارات من اتصالهم بالمستشارة الألمانية قبل أسبوعين لاقتراح خطة تحفيز مبنية على مقايضة المركبات المتضررة، مثل السيارات القديمة العاملة بالبنزين والديزل، بالأموال النقدية. كانت تجربة القطاع مع هذه المقاربة إيجابية، فقد ساعدته على النهوض سريعاً بعد الأزمة المالية في العام 2009. من وجهة نظر الرؤساء التنفيذيين في شركات السيارات، سيكون تجديد البرنامج التحفيزي منطقياً جداً لأن متوسط عمر سيارات الركاب في ألمانيا يبلغ 10 سنوات تقريباً. تبدو الحكومة الألمانية منفتحة على هذه الفكرة. بعد خمس سنوات على فضيحة الديزل، تلاشى معظم الاستياء المرتبط بحِيَل قطاع السيارات. اليوم، تتعلق المسألة الأساسية بتأمين مستقبل أهم قطاع في ألمانيا وحماية 1.6 مليون وظيفة مرتبطة به بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، شرط أن تلتزم الشركات في المقابل بحماية المناخ وبمبادئ التنقل الإلكتروني. في الوقت الراهن، يتركّز النقاش على خطة التحفيز التي تشمل عوامل بيئية. كلما تراجعت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من السيارات، ستزيد الإعانات المالية المرتقبة. في مطلق الأحوال، ستُستعمَل خطة التحفيز على الأرجح لصالح المركبات المزوّدة بمحركات احتراق تقليدية لأن الحوافز التي تشجّع على شراء السيارات الإلكترونية موجودة أصلاً.
لم تصبح شركات التصنيع الألمانية بعد في وضعٍ يسمح لها بتوفير إمدادات السيارات الإلكترونية على نطاق واسع. فقد كانت تجد صعوبة أصلاً في تصميم سيارات عاملة بالكهرباء، حتى قبل بدء أزمة فيروس كورونا. تتعدد المشاكل التي تعيق تلك الجهود، منها نقص البطاريات، وقد زاد إنتاجها تعقيداً بسبب الإقفال التام. تعتبر شركات تصنيع السيارات أن أي سيارة يشتريها أحد العملاء بعد انتهاء فترة الإقفال ستكون بالغة الأهمية، سواء كانت كهربائية أو عاملة بمحرك احتراق.
لن يكون أي رئيس تنفيذي مستعداً لإطلاق توقعاته حول سرعة تعافي شركات السيارات، لكن يخشى رئيس Continental، إلمار ديجينهارت، أن تطول مدة جمود السوق. في مطلق الأحوال، سيحتاج هذا القطاع على الأرجح إلى سنوات قبل أن يبلغ مستويات الإنتاج القياسية التي سجّلها في العام 2017.
نداء الوطن
شركات السيارات الألمانية تتخبّط في مأزق الكورونا 23 نيسان 2020