Maarakeh online logo

m66

33

fss   aass
الفلسفة والمُصافحة بالكوع

16 - مارس - 2020
كه يلان محمد

♦️باغت فيروس كورونا المستجد العالم بسرعة تفشيه، ولم يعدْ هناك بلدُ بمنأى عن تداعيات هذا الوباء، ولم يتوقع العلماءُ في البداية أنَّ المارد يخرجُ من قمقمه ووهان، ويغزو القارات البعيدة ويقطّعُ أوصال المجتمعات، لكن ما لبثَ أنَّ صارت أخبار الفيروس مالئ الدنيا وشاغل العالم، وطال تأثير الصدمة جميع المرافق الاقتصادية والسياحية والثقافية.
ومن المعلوم أنَّ هذا الوضعُ ينعكسُ سلبا على المستوى النفسي لدى الأفراد، وقد تتخبط الحكوماتُ في القيام بالإجراءات، بعد ارتفاع عدد المصابين بكورونا، واتساع جغرافية إنتشار العدوى، وإعلان منظمة الصحة العالمية أنَّ الوباء بات معولماً، وتزايد المدن الموبوءة، وتبدل سلوكيات الحياة العادية، إذ أصبحت الشوارعُ خالية من المارة، وتم إلغاء ممارسة الطقوس والشعائر الدينية في دور العبادة، إضافة إلى وقف النشاطات الثقافية والرياضية والمُصافحة بالكوع، بدلاً من اليد، وركون الناس إلى المنازل، يبدو أنَّ التوتر قد تصاعد، ولا يعلو صوت على صوت كورونا في وسائل الإعلام، ناهيك مما يضخُ في الوسائط الإلكترونية. كما حظيت الأعمال الأدبية التي تتناول الأوبئة والجائحة بالمتابعة، ولاقت رواجاً وزاد الطلبُ على بعض العناوين الروائية، غير أنَّ ما هو الأهم في هذا التوقيت هو التخفيفُ من حدة التوتر، عن طريق التعامل مع النصوص الأدبية بوصفها عاملاً لاستعادة التوازن على الصعيد النفسي، إذ تذكرك هذه الأعمال بأنَّ البشرية قد انخرطت في حرب ضد الوباء والأمراض المميتة، ولكن كلما كسبت جولةً ولو بخسائر فادحة، تمكنت من بناء الحضارة من جديد، وبدأت دورة الحياة الطبيعية «كل شيءِ يحدثُ، فقد كان يحدثُ هكذا في ما مضى، وسيظلُ يحدثُ هكذا في المستقبل»، وما زاد من مناعة الإنسان في تحمل التقلبات البيئية، هو القدرة على التأقلم مع الظروف، وتمكنه من تحويل العوائق إلى أداة لإنجاز مزيدٍ من التطور «الضربة التي لن تموتني تقويني»، فكان العامل الجغرافي يحول دون التواصل بين المجتمعات في السابق، لكن نجح الإنسانُ في قهره من خلال وسائل النقل، التي تطورت بالتدريج، كما أنَّ كثيراً من الأوبئة والأمراض التي أعتبرت مصدر تهديد للحياة في العصور المنصرمة، ما عادت تشكلُ تحدياً أو خطراً في زمننا، إذن فإنَّ مع كل اختبار صعبٍ يفتح أفق جديد للتطور.

طب العقول

يتابعُ المواطنون المعلومات التى تنشرُ بشأن تطورات مرض كورونا على وسائل الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي، ولا تكفُ الجهات المعنية عن التأكيد على ضرورة التمسك بالتعلميات الطبية، ولكن هل يكفي التدججُ بالكمامات والسترات الطبية، واستخدام المعقم لمواجهة الفيروس؟ نعم كل ذلك قد يحميك من الإصابة بالعدوى، لكن ماذا عن المخاوف التي تغزو الأعماق وتصعّدُ من حدة الانفعالات؟ «ليست الأشياء ما يكربُ الناس، ولكن أفكارهم عن الأشياء»، كما يقول إبكتيتوس، من هنا يبدأُ دور طب العقول، أي الفلسفة، فلا تنفعك الوصفات الطبية في معالجة الشعور بالسأم من الترقب، وتكرار المشاهد، علماً بأنَّ الإنسانَ هو الحيوان الوحيد الذي قد يشعرُ بالملل، ولا يريدُ أن يكونَ ما هو عليه، حسب تعبير ألبير كامو.

يتابعُ المواطنون المعلومات التى تنشرُ بشأن تطورات مرض كورونا على وسائل الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي، ولا تكفُ الجهات المعنية عن التأكيد على ضرورة التمسك بالتعلميات الطبية، ولكن هل يكفي التدججُ بالكمامات والسترات الطبية، واستخدام المعقم لمواجهة الفيروس؟

كيف يكونَ ردُ الفعلِ، إذا تطلبَ الموقف أن تفرض حجراً صحياً على نفسك؟ طبعاً لا توجدُ عقاقير للتخلص من الملل، لذلك من الأفضل أن تتقبل قدرك، يُشَبهُ ماركوس أوريليوس الإنسان المتبرم بكل شيء، والساخط من كل الوضع، بخنزير الأضحية يرفس ويصرخ. ومن المناسب في هذا الصدد التذكير بقصة الفيلسوف الرواقي إبكتيتوس، الذي كان عبداً لإيافروديتوس، فالأخير نكّل به وعذبه بطريقة غريبة، حيث وضع رجل الفيلسوف في آلة التدوير مترقبا ردَّ فعله، وما من صاحب المختصر إلا أن قال ستكسرها. وفي ذلك صورة واضحة لتحمل الشدائد والتجلد، فالحكمة برأي الرواقيين تكمنُ في قدرتك على أن تفرق بين الأشياء، ما يمكنُ تغيرهُ وما يقعُ خارج قدراتك، فبالتأكيد أنَّ منع انتشار الوباء أمر يفوق قدرة العلماء، فما بالك بمن ليس له دراية بالطب. إذن عليك أن تقتنعَ بمبدأ هيغل «كل ما يحدثُ في الواقع فهو منطقي» عطفاً على ما سبق فإنَّ فهمك للحياة يتعمقُ كلما شعرت بأنك تعيشُ في الخطر. يقولُ نيتشه «أنا أعرف الحياة معرفة جيدة لأني كنتُ على وشك فقدانها» فكان المرضُ أول شيء هداه سواء السبيل. ويقاربُ نيتشه الأوبئة على نطاق أوسع لافتاً بأنَّ أوروبا تدين بعظمتها لدائه الذي لا يشفى، وآلامه المتنوعة العديدة، فإن هذه الآلام والأخطار المتجددة، في نظر نيتشه حاضنة للأفكار. نبقى مع فيلسوف الريبة إذ تؤكد سالومي بأنَّ المرض كان مصدر إبداعه وكل تعافٍ هو إحياء بهيج وتجديد لنشاطه العقلي. ومن جانبه وصف نيتشه هذه الحالة بـ«تذوق جديد» ماذا بجعبة الفلاسفة عن الموت، وقد عرف سقراط التفلسف بأنه استعداد للموت، مطالباً بأنَّ نواجه هذا المصير الحتمي مثلما نواجه الحياة، ويرى أنكسمندريس أن كل ما ينشأُ يصيبه الفناء، وكل ما يولد جديرُ بالموت، ولولا الخوف من الموت لما كانت فلسفة ولا دين، على حد قول شوبنهاور، إذن فإنَّ دور الفلسفة يتمثلُ في تهدئة المشاعر السلبية، ومنع تناسل الأهواء الحزينة، وحمايتك من الوقوع في منزلق الخوف والهلوسات، فالموت من منطلق الفلسفة دافعُ للتأمل والتفكير، وإدراك الصراع بين الرغبة في البقاء والوعي بالنهاية، وفي الأخير نقتبسُ من لوكريتيوس مبدأه لمعالجة الخوف من الموت «حيثُ يوجدُ الموت لا أوجد أنا وحيث أوجد أنا لا يوجد الموتُ لم القلق؟».

رؤية جديدة

يستنكرُ فريدريك نيتشه مفهوم المعرفة من أجل المعرفة، واصفاً إياه بآخر شركِ نصبته الأخلاق، وبذلك يتقاطعُ مؤلف «مولد التراجيديا» مع منطق الرواقيين الذين حاولوا في مسعاهم المعرفي تحويل الفلسفة إلى أداة لتحسين نمط الحياة، وإصلاح الفكر، لأنَّ الإنسان كيفما تكنُ أفكاره المعتادة تكن طبيعة فكره وبالتالي يتشكلُ الإنطباعُ حول الأشياء بناءً على منهجك في التفكير والسلوك العقلاني، لذا فإنَّ الفلسفة لدى إبكتيتوس، هي الاشتغال على تحرر الذات من الانفعال، واكتساب المناعة من المؤثرات الخارجية. يقولُ ماركوس أورييليوس، إن العقل الخالي من الانفعالات هو قلعة، ليس ثمة ملاذ للناس أقوى منه. ويسبقُ علاج الروح عند شيشرون عملية القضاء على أوصابنا الجسدية، ولا ينفعك على هذا الصعيد غير الفلسفة، من هنا نفهم مغزى هذه العبارة «مدرسة الفيلسوف هي عيادة الطبيب»، لكن مع الأسف تحولت الفلسفة في وسطنا الثقافي إلى مشجبٍ لمُصطلحات مسمومة بالكراهية، ومخاصمات بين الطوائف المختلفة مثلما أن فهمنا للدين متزمت، كذلك الأمر بالنسبة للفلسفة، وكلما يذكر لفظ الفلسفة يتبادرُ إلى الذهن الصراع الأيديولوجي والمماحكات بين الجبهات المُتنابذة، بينما غاية النشاط الفلسفي في رأي المفكر المغربي سعيد ناشيد، تنمية القدرة على العيش في هذا العالم، الذي هو مأوانا المؤقت. صحيح أنَّ الفلسفة لا تغير الحياة، أو كما يقول أتباع المدرسة الرواقية لا تمنع وقوع الأحداث، ولا تأخذنا الأوهام بأنَّ الفلسفة تعجّل بقيام الجنة على الأرض، لكن تقدمُ فهماً تعود بعده أحداث الحياة مقبولة وممتعة، لذا تصبح قراءة الفلسفة في المحن والأزمات ضرورة ملحة إذا كان الغرض من القراءة هو وضع الحدث في سياق تاريخي، إذن فالفلسفة ليست رديفاً للتعقيد والتجهم والتشدق بألفاظ غير مفهومة. وفي ذلك تجد فوائد الفلسفة للتأقلم مع زمن المصافحة بالكوع. والأمر لا يخلو من المنفعة، سواء على المستوى الفردي، أو على المستوى العالمي فربما تتراجع مخاطر نشوب الحرب، وتتضافر الجهود لمحاربة العدو الذي وضع الجميع أمام سؤال المصير. كما يجب التعامل مع الحالة باعتبارها فرصة للتأمل، وإعادة النظر بنمط عيشك لأن الحياة التي لا تخضع للنقد هي حياة لا تستحق أن تعاش.

٭) كاتب من العراق،القدس العربي)


الفلسفة والمُصافحة بالكوع

الفلسفة والمُصافحة بالكوع



Maarakeh Online footer logo

© 2018 Maarake Online

Powered by:VAST Logo