القصة
مدينة صغيرة تقع أعلى الجبل العظيم وسط الصحراء . منقطعة عن العمران لصعوبة الوصول إليها؛ فالصحراء المهلكة التي تحيط بالجبل من كل جانب ، تمنع الناس من التفكير في اجتيازها والحضور إلى مدينة الجبل الفقيرة . لذلك يلجأ بعض سكانها للخروج والسير مسافة بعيدة راكبين ظهور جمالهم ، حتى طريق القوافل . حيث يقايضون بعض ما عندهم من إنتاج مدينتهم الشحيح ، من زيت الزيتون والتمر والتين ، ببعض الغلال والحبوب يقتاتون عليها ، ويطعمون قطعان ماشيتهم عند الجفاف وقلة العشب . كان حاكم مدينتهم الصغيرة والمسمى ( تاليس ) هو من يقوم بالقسمة مناصفة بين القبيلتين الوحيدتين اللتين تقطنان المدينة . كان حاكماً عادلاً محبوب من سكان مدينته . لا يفرق بين أبناء قبيلته ، والقبيلة الأخرى في المعاملة فنال رضاء أهل القبيلتين . لم يكن ينغص على حب الناس لحاكمهم إلا تصرفات أبنه الشاب الطائش المتهور. كانوا كثيرون الشكوى منه لوالده ، ولكن لم يفلح معه النصح أو العقاب ، فيعود كل مرة لإيذائهم ويعودون للشكوى منه . فطرده الحاكم أسفل الجبل وكلّف حارسين من حراسه بالإقامة معه وتنفيذ طلباته ، ومنعه من الصعود للجبل وإيذاء السكان
.
أقام أبن الحاكم بسفح الجبل مع الرعاة هو وحارساه . وصب جام غضبه من أهل المدينة ، على رعاة قطعانهم من الغنم والماعز . فأذاقهم الويل وأصبح كثيراً ما يسطو على المواشي ، ويختار ما يعجبه منها فيقوم بذبحه وأكله هو وحارساه . مهدداً الرعاة المساكين من العواقب التي ستنالهم ، إن أخبروا أحداً ووصل الخبر إلى الحاكم عن طريقهم . فكانوا من خوفهم وكلما أخذ خروفاً أو جدياً منهم ، قالوا للسكان إن الذئب أكله أو مات بسبب المرض ؛ ولأن المدة كانت تطول قليلاً بين كل وجبة ووجبة ، لم يلاحظ السكان ذلك واعتبروا فقد خروف أو جدي من حين لأخر أمر طبيعي ؛ بسبب كثرة الذئاب أسفل الجبل ، وثقتهم في حرص الرعاة وأمانتهم
.
مرض حاكم المدينة فأمر بإحضار ابنه إليه من أسفل الجبل . ظناً منه بأن ابنه قد تحسنت أخلاقه بالإقامة بعيداً عن الناس ، وتجربته للوحدة وفقد بعض المتع التي كانت متوفرة له بالمدينة . وعند سؤاله للحارسين عن أخلاق ابنه طوال إقامته معهم ، أخبراه عن سلوكه الرفيع ، ومعاملته الطيبة لهم وللرعاة ، وإن عقابه كان له درساً استفاد منه كثيراً . ففرح الحاكم ورضي عن ابنه الوحيد ، ووريثه على عرش مدينته الصغيرة . أما الشاب الذي لم يتغير من أخلاقه شي ، وإنما أزداد حقده على أهل المدينة ؛ بسبب طرده منها فإنه عندما لاحظ مرض والده الشديد توقّع موته قريباً ، فلزم بعض الهدوء وتظاهر بتغيّره ، في انتظار وفاة والده التي تأكد أنها قريبة ، بسبب حالة والده الصحية التي تسوء كل يوم ، وأنتظر أن يحكم المدينة من بعده وينتقم من سكانها أجمعين .
أيام قليلة وتوفى الحاكم . فحزن عليه سكان المدينة حزناً شديداً ، وبعد دفنه تجمع أهالي القبيلتين ، وقرروا وفاءً منهم لحاكمهم العادل ، تنصيب ابنه حاكم عليهم . فتولى ) ابن تاليس ) الحكم بعد والده ، وأول شي عمله هو الاجتماع بأكابر شيوخ القبيلتين ، وطلب منهم الموافقة على تقديم بعض الشباب من أبنائهم ، لتدريبهم وجعلهم من ضمن حرسه الخاص ، ووعد بأنهم سوف يعاملون معاملة طيبة ، ويأكلون أطيب الأطعمة ، ويرتدون الملابس التي تسترهم . فوافق الشيوخ بعد تردد بسيط ؛ فالمعيشة كانت صعبة والناس في فقر ومشقة حتى الشيوخ منهم . كشّر بن تاليس عن أنيابه في وجه أبناء مدينته ، الذين نصّبوه حاكماً بدلاً من والده . انتقاماً منهم على شكواهم منه وعقاب والده له بسببهم. فأحتجز أبناء الشيوخ رهائن عنده للضغط عليهم، وهددهم بقتلهم جميعاً إن لم ينصاعوا لأوامره ويحققوا رغباته. كان أول طلب طلبه من سكان المدينة هو حصاد الشوك من أسفل الجبل والقيام بدرسه وتحويله إلى تبن ليقدمه علف إلى حيواناته التي ورثها عن والده. وأمهلهم مدة بسيطة لبدء العمل، بعد أن قسّمهم إلى مجموعتين؛ قبيلته تبدأ العمل من الصباح الباكر وتستمر حتى الظهر، ثم تعود إلى سابق عملها العادي قبل حصاد الشوك. أما القبيلة الأخرى فإنها تقوم بعملها المعتاد حتى الظهر، وبعدها تبدأ في حصاد الشوك حتى المساء. وأمر الحراس بحبس وتعذيب من يتقاعس عن العمل من أبناء القبيلتين أشد العذاب، حتى يتمنى حصاد الشوك على ما يناله من عذاب قاسي داخل السجن.
بدأ العهد الجديد على سكان المدينة الجبلية بالشقاء والإذلال. كانوا مسالمين لا يملكون حتى السلاح البسيط الذي يدافعون به عن أنفسهم، حاكمهم السابق لم ينشر بينهم روح القتال؛ فمدينتهم بعيدة عن الأعداء والصحراء تحميها منهم، وصعوبة الوصول إليها والمشقة في صعود الجبل زاد من راحة بالهم. ولكن لم يكن يخطر لهم على بال، إن أبناء عمومتهم وإخوانهم، هم من سوف يذيقونهم أصناف من العذاب لا توصف. فقد التف حول الحاكم الجديد بعض ضعاف النفوس منهم، وشكلوا حرساً قوياً يدافع عنه. جلب له السلاح من بعيد، وجعل نواته حارساه القديمان وقت طرده من المدينة. ينتفعون بكل شيء نظير حماية الحاكم وتنفيذ أوامره. وشعبهم يعاني أشد المعاناة.
جلب الأشواك من سفح الجبل على الظهور، والصعود بها وفرشها على الأرض بساحات داخل المدينة والسير عليها بالأقدام الحافية حتى هرسها وتحويلها إلى تبن لين، يملأ في شباك كبيرة ويتم حمله على البغال والحمير وتخزينه بمخازن ( بن تاليس ). عمل مرهق صعب شديد على الرجال والنساء من سكان المدينة. لم يستمر إلا بسبب الأهوال التي سمعها السكان، ممن خرج من سجن ( بن تاليس ) وعاد للعمل معهم. وقال إن درس الشوك بالأقدام الحافية نقطة من بحر العذاب داخل السجن. هذا بالنسبة للرجال، أما النساء فتهديدهم بقتل أطفالهم وهتك أعراضهم، اجبرهم على معاونة الرجال في العمل الخفيف؛ كجمع التبن وشد الشباك وتحريض الرجال على مواصلة العمل وعدم التمرّد. فكمية الأشواك بسفح الجبل قاربت على النفاذ، وسيرتاحون قريباً.
كانت كل قبيلة تعمل لوحدها وفي الفترة المخصصة لها؛ ولكن الحراس المشرفين على سير العمل كانوا من القبيلة الأخرى؛ حتى لا يقوم أحد بمساعدة أقاربه أو العطف عليهم والرأفة بحالهم. السياط والحراب والسيوف بأيدي الحراس حتى نهاية العمل، ومن يتقاعس أو يتهاون يعاقب أشد العقاب ويهدد بتحويله إلى سجن ( بن تاليس ) فيعود مكرهاً خائفاً إلى العمل.
من عادات وأخلاق السكان بالمدينة، عدم تكشّف نسائهم وبناتهم على الغريب من خارج العائلة. نساؤهم دائماً يغطي وجوههن الخمار، ولا يكشفن على وجوههن أمام الغريب مهما كانت الأسباب. ولكن هاهي ( بشرى ) ذات العشرين ربيعاً تخرج عن المألوف؛ فتلقي بخمارها على الأرض وتكشف عن وجهها أمام شباب ورجال قبيلتها، وقت العمل بدرس الأشواك وتعبئتها بالشباك بعد تحويلها إلى تبن، وليتها فعلت هذا فقط بل لم تستر وجهها حتى عند حضور الحراس من قبيلة ( بن تاليس). مما سبب نقمة بعض شباب قبيلتها عليها وشكوا أمرها إلى والدها. ولكنها لم تبال بأحد وردت عليهم رداً أفحمهم. ولم يعودوا يستطيعون تكرار شكواهم. كان ردها على والدها: ( إنني لا أرى رجالاً حتى أغطي وجهي خجلا ً منهم ). كان ردّ ( بشرى ) أشد عذاباً للرجال والشباب من سيرهم على الأشواك القاسية تحت أقدامهم؛ التي تعودت من كثرت العمل عليها فتحجرت أقدامهم وكونت جلدة سميكة ساعدتهم على تحمل قسوة الأشواك.
ظهور ( بشرى ) كل يوم سافرة الوجه وقت العمل. زاد من إذلال رجال قبيلتها فلم يستطيعوا النظر إليها خجلا ً من أنفسهم أمامها، وحدث العكس عند مرورها أمام الشباب والرجال مرفوعة الرأس منهمكة في عملها. يطأطئون هم رؤوسهم خجلا ً منها حتى تمر. كان الشباب يختلسون النظر إلى جمالها الفاتن الذي لم يلاحظوه من قبل. جميلة ً جمالاً يذهل العقل، فلا يشعرون بوخز الأشواك أسفل أقدامهم، ولا التعب أو الملل ما دامت تشاركهم العمل كأي واحد منهم. ولكنهم كانوا يتقطعون ألماً وحسرة عندما يحضر الحراس ويشاهدون نظراتهم النهمة إليها. ولا يخفى عليهم تملق الحرس لها والطلب إليها بأن ترتاح من عناء العمل في الظل. ولكن كان يسعدهم عدم ردها عليهم أو الإنصات إلى غزلهم المبطن حتى ظن الحرس إنها صماء خرساء بسبب عدم تجاوبها معهم. وعند المساء ومع نهاية العمل اليومي ترتدي ) بشرى ) خمارها تغطي وجهها، وتتجه إلى بيتها دموعها تجري على خذها الوضاء حزناً على ما يقاسيه أهلها من هوان.
حب ( بشرى ) سكن قلوب الجميع ، جمالها الساحر ، وعملها الدؤوب ومساعدتها لأبناء قبيلتها ، وقلة كلامها زاد من تعلّق الشباب بها . ولكنهم لم يجدوا الشجاعة للتصريح بمكنون صدورهم نحوها . واحد فقط هو من تجرأ على إظهار مشاعره تجاه ( بشرى) وعرّض حياته للخطر بسببها هو ( سيف الحق ) ، الذي وقف في وجه حراس ( بن تاليس ) الذين يراقبون العمل ، عندما تحلّقوا حولها ذات مساء قبل انتهاء العمل بقليل . فهب إليهم والشرر يتطاير من عينيه غضباً من تصرفهم الأهوج، فانصرفوا خجلين ، ولم يتعرضوا لها أو له خوفاً من تأليب الناس ضدهم.
( سيف الحق ) في الخامسة والعشرين من عمره ، أبوه فلاح بسيط من قبيلة ( بشرى ) ؛ ولكنه حكيم من حكمائها كلمته مسموعة ويحضى باحترام شيوخها وشبابها ، ربى ابنه على الأخلاق الفاضلة الكريمة وعزة النفس ، فنشأ شجاعاً قوياً لا يخشى أحداً ، موقفه الأخير في حماية ( بشرى ) تحدث عنه شباب وشيوخ قبيلته همساً فيما بينهم ؛ خوفاً من وصول ما قام به إلى أسماع ( بن تاليس ) فيتعرّض سيف للأذى . كانوا معجبين بموقفه البطولي وشجاعته أمام عجز الحاضرين وخوفهم
.
ما قام به ( سيف الحق ) لفت نظر ( بشرى ) إليه ، ولكن موقفها السابق لم يتغير . لم تشكره على ما فعله من أجلها ؛ وإن لاحظ ابتسامة رضا على ثغرها ، ومسحة من السرور أشرق به وجهها الجميل . جعلته سعيداً بفعلته التي لم يدرك خطورتها ، لو تطور الأمر إلى أكثر مما حصل . ولكن الحب الشديد الذي يكنه لـ( بشرى ) كان هو الدافع بلا شك . من أول يوم حضرت فيه للعمل ، وألقت خمارها على الأرض وكشفت عن وجهها أمام الجميع ، و( سيف الحق ) يعاني أشد المعاناة ؛ أحبها حباً جنونياً ملك عليه أقطار نفسه وخوالج صدره ودفين فكره . لم يعد يرى أحداً إلا هي ، ولا يفكر بشي إلا فيها ، ولا يحزنه إلا عملها معهم سافرة يختلس الجميع النظر إليها
.
تطور الأمر بينهما رويداً رويداً ، لم يعد ( سيف الحق ) يستطع البقاء بعيداً عنها . كان يختلق الحجج وينتهز الفرص للتكلم معها . وزاد من اشتعال نيران حبه لها ، حكمتها ، ومنطقها ، ورأيها الصائب في كثير من الأمور التي ناقشها معها . لفتت نظره إلى كثير من الحقائق التي كانت غائبه عنه . وفي يوم من الأيام وعند مغادرة ساحة العمل ، وقف بجانبها وقال لها بحسرة :
-لقد قاربت كمية الأشواك بسفح الجبل على النفاذ ، فهل يا ترى بعد انتهاء العمل بالساحة نلتقي من جديد ؟!
ردت عليه بتهكم -يبدو إنكم تعودتم على العمل الشاق ، وهل تظن إن ( بن تاليس ) يترككم ترتاحون بعد انتهاء هذا العمل ؟!! بالتأكيد سيخترع لكم عملاً أقصى منه يشغلكم به لا أظن ذلك فأقاربه وأفراد قبيلته يعانون مثل ما نعاني !
-إنكم واهمون ، أنتم فقط من يعاني من الأشواك وليس رجال قبيلته
تسأل باستغراب كيف
ردت عليه : هم يشتغلون منذ الصباح الباكر ، عندما تكون الأشواك رطبة وندية بفعل الرطوبة والندى . يجمعونها بسهولة ، ويدرسونها بأقدامهم فيجدونها لينة تحتهم تطاوعهم وتتحول إلى تبن بدون أن تؤثر فيهم ، ولا ينتصف النهار حتى ينتهوا من عملهم ويرتاحون في الظهيرة ، فلا يؤذيهم الحر وقيظه ، ولا الشمس وحرارتها .
أما أنتم فيبدأ عملكم في عز الحر والشمس في كبد السماء ، وتكون الأشواك جافة صلبة فقدت ليونتها ورطوبتها ، يؤذيكم حصادها وتخترق أقدامكم مثل الخناجر عند المشي عليها ودرسها . فهل أنتم مثل أفراد قبيلة الحاكم ؟! قالت جملتها الأخيرة بغضب واضح على وجهها .. وتابعت بصوت عالي سمعه من كان قريب منهما
:
أنتم صابرون على الهوان والذل ، ولا يصبر الحر تحت الضيم وإنما يصبر الحمار !!
غادرت مسرعة ، وتركته مندهشاً من هول ما سمع منها .
في الأيام التالية لم تكلم ( بشرى ) أحداً ، ولم ترد على أحد . تجاهلت ( سيف الحق ) تجاهلاً تاماً ، وإن حاول الاقتراب منها ابتعدت هي عنه . جن جنونه من صدها ، وأزداد عذابه من هجرها . منذ كلامها الأخير معه وكلماتها تتردد عالية برأسه ، اكتشف إنها على حق في كل كلمة نطقت بها ، وجرب بنفسه صدقها . حضر في صباح اليوم التالي وخرج قليلاً للعمل مع بعض أصدقائه الشباب من قبيلة( بن تاليس ) ، جرب معهم قطع الأشواك الرطبة في الصباح والمشي عليها في الضحى ، وجدها عملية سهلة عذابها قليل بالمقارنة لما يعانيه أفراد قبيلته من نفس العمل ، ولكن بفارق بسيط في التوقيت . أدرك الآن سر دموع ( بشرى ) التي كانت لا تفارقها . وأزداد حنقه وغضبه من حاكمهم الجديد ، الذي بدأ حكمه بعذابهم والانتقام منهم . ولكن كيف السبيل لإرضاء ( بشرى ) حتى تعود الأيام إلى سابق عهدها ، حاأظلمت الدنيا في وجه ( سيف الحق ) فهجران ( بشرى ) زاد عن حده ، افتقد ابتسامتها الجميلة ، وضحكتها الرائعة التي نادراً ما تجود بها بسبب الوضع الذي يعاني منه الجميع ، وافتقد كذلك حديثها العذب الشهي الذي كان يتمنى أن يدوم لأطول وقت مادام معها . كانت الزهرة الفواحة وسط غبار الأشواك الخانق ، والبلسم الذي يداوي الجميع بحنانها ورقـّتها .
طال غضبها هذه المرة أكثر من المعتاد ، وكأنها فقدت أملاً كبيراً كانت ترجو تحقيقه ولم تفلح محاولاتها الجريئة في ذلك . مرت هذه الخاطرة سريعاً بذهن ( سيف الحق ) فأعاد ذكريات الماضي الحزين بتمهل وتفكر وتدقيق . ما الذي يدفع فتاة جميلة كـ( بشرى ) للقيام بكل ما قامت به دون غيرها من بنات قبيلته ؟! خرجت عن المألوف والمتعارف عليه بقبيلتها، حطمت عادات وتقاليد تتبعها القبيلة منذ أجيال بعيدة ، شجاعتها وتفردها في كل ما تقوم به ؛ زاد من إعجاب الجميع بها رغم شذوذها عن القاعدة. إذن ما تقوم به لا يتعارض مع قيم القبيلة وأخلاقها بدليل عجز أفرادها على منعها وإيقافها . هل هي رسالة هامة وخطيرة تقوم بها ( بشرى ) ولكنها مشفّرة ولم يستطيع أحد أن يفك شفرتها ويفهمها إلى الآن ؟! ولكن لماذا ومنذ هجرها أزداد تعّلق قلبه بها أكثر من السابق ورغم قسوتها عليه ، تتردد كلماتها وتلميحاتها وأفعالها وحركاتها أمام ناظريه في نومه ويقظته ؟! هل بدأ قلبه المحب لها بجنون يفك طلاسم سحرها الحلال ؟
وقف أمامها فجأة وهي مشغولة في عملها ، لم تلاحظه هذه المرة من بعيد متردداً يحاول أن يقترب منها ويكلمها ، فتهرب من نظراته وكلماته وسط جموع أهل قبيلتها المنهمكين في العمل الشاق حتى لا يستطيع أن يلحق بها. نظرته اليوم وهيئته مختلفة عن سابقاتها الذليلة المترجية عطفها ، الهدوء والراحة تطغى على ملامح وجه الصارم . طلب منها بلطف ورِقة وعذوبة لم تعهدها منه أن تعطيه قليلاً من وقتها . هزت رأسها موافقة وانتحت جانباً وقلبها يدق بعنف في انتظار كلماته ، التي شعرت بأنها ستكون وبلا شك جديدة لم تسمعها منه سابقاً .
قال لها بعزم وتصميم إن رسالتها وصلت أخيراً ، وإن قلبه المحب لها اهتدى إلى طريق الخلاص التي كانت تحرّض على إتباعها ، وسيضع روحه على كفه فداءً لأهل مدينته الطيبين ، وحبه لها هو زاده فيما سيقدم عليه من عمل خطير عزم على تنفيذه . ورجاها أن لا تنسى مهما حدث له حبه العظيم لها ، الذي أنار دربه وألهمه التضحية والمخاطرة في سبيل حرية شعبه وإنعتاقه من عذاب ( بن تاليس ) . شدّت على يده بقوة وأسارير الفرح بكلماته تنير وجهها الصبوح ، وقالت له لم يخب ظني فيك يا ( سيف الحق ) فالحرية أغلى من الحياة ، والموت أهون من الذل . ولكن لا تتسرع ونفذ ما خططت له بتروي وحكمة ، وشاور من حنّكته الحياة بدروسها والأيام بتجاربها ، وأعلم بأن اليد الواحدة لا تصفق وإن حمل الجماعة ريش . وختمت كلامها بقولها : إنني أنتظر على أحر من الجمر عودتك ظافراً منتصراً على الظلم وأعوانه ، وجالباً لنا السعادة التي لا تحلى الحياة بدونها .
الليل يغطي مدينة الجبل الهادئة ، والسكان يغطون في نوم عميق بسبب التعب والإرهاق ؛ من عناء العمل بالأشواك وهولها الدائم منذ بداية حكم ( بن تاليس ) ، الذي مضت عليه عدة شهور . ( سيف الحق ) وثلاثة شباب من أبناء مدينته يتسللون بحذر ، وسط الظلام الدامس متسلحين بسيف ، ورمح ، وخنجر ، وعصا ، لا غير متجهين إلى قصر ( بن تاليس ) المنيع ذو الأسوار العالية الذي يعج بالحرس الأشداء المسلحين بمختلف أنواع الأسلحة .
صحا ( بن تاليس ) مذعوراً من نومه ، كانت الأصوات تأتي من الخارج عالية ، جلبة وصراخ وأصوات قتال ضاري في ساحة قصره . خرج من حجرة نومه يرتعش من الخوف . وبعد خطوات قليلة التقى بأحد أفراد حرسه مجروحاً والدم ينزف منه بغزارة . وعندما سأله عن الخبر قال له : لقد هجموا على القصر وقتلوا حراس السجن وأخرجوا السجناء وأبناء الشيوخ الرهائن . وقاموا بتسليحهم بعد أن استولوا على مخزن السلاح وهم في الطريق إليك . فأنجو بنفسك يا سيدي . وسقط الحارس على الأرض لافظاً أنفاسه الأخيرة . أسرع ( بن تاليس ) يرتدي عدة حربه وخرج شاهراً سيفه لعله يصل إلى الأسطبل ، فيركب حصانه وينجو بجلده من العقاب الذي ينتظره على يد أبناء شعبه ، الذين أذاقهم فنون العذاب ولم يكن يظن إنهم سينتفضون في يوم من الأيام ضده
.
ولكن ما كاد يصل ساحة القصر حتى تجمّد في مكانه من هول ما رأى ؛ كانت جثث حراسه الأشداء تملأ المكان ، ووجد ( سيف الحق ) ورجاله الأبطال كأنهم الأسود من ورائه في انتظار خروجه إليهم . وصاح به ( سيف الحق ) : إلى أين يا ( بن تاليس ) حانت ساعة القصاص فأين المفر . صاح ( بن تاليس ) : من أنتم ؟ وكيف تمكنتم من التغلب على حرسي القوي المدرب ؟ ضحك ( سيف الحق ) ورد عليه : نحن تدربنا أكثر منهم ، شهور طويلة ونحن نتدرب أشق تدريب يتصوره العقل وكان بأمرك ، هل نسيت ؟! ولكن رب ضارة نافعة ، تمارين الشوك فعلت فعلها بحرسك كما ترى . وهجم عليه بشدة وما هي إلا جولة قصيرة وسقط ( بن تاليس ) مضرجاً بدمه ونال عقابه الذي يستحقه .
أقيمت الأفراح على طول المدينة وعرضها ، وفرح الناس بخلاصهم من الذل والمهانة على يد ( سيف الحق ) وأصحابه وبمساعدة أبنائهم الرهائن والمسجونين في سجون ( بن تاليس ) الرهيبة . واكتملت الفرحة بتنصيب ( سيف الحق ) حاكماً على المدينة ، بموافقة كامل شعبها وزواجه من ( بشرى ) حبيبته ومعلمته فنون التضحية والفداء .
القصة مدينة صغيرة تقع أعلى الجبل العظيم وسط الصحراء .